رأي شيخ الإسلام ابن تيمية بقصر الصلاة:
يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية من أوائل من كتب في هذا الأمر، وقد جاءت كتابتهُ ضمن الفتاوى التي قام بجمعها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله، وقد قمت بدراسة وتحليل ما كتبه والإجابة عن ذلك الأمر هي ما يلي:
-قال شيخ الإسلام رحمه الله، أن الإقامة فهي خلاف السفر، فالناس رجلان هما مقيم ومسافر، ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين وهما: إما حكم مقيم وإما حكمُ مسافر، فقال تعالى: “يومَ ضغنكُم ويوم إقامتكمُ” فجعل للناس يوم ضغنٍ، ويوم إقامةٍ، والله تعالى أوجب الصوم، وقال: “فمن كان مِنكم مريضاً أو على سَفرٍ فعدةٌ من أيامٍ أخر” فمن ليس مريضاً، ولا على سفرٍ فهو الصحيح المقيم. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: “إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة” فمن لم يوضع عنه الصوم وشطر الصلاة فهو المقيم.
تعقيب على هذا الأمر: إنّ هذا المسافر. إلا أنّ الشيخ رحمه الله لم يشر إلى ما دلت عليه الآية من بيان صفة المسافر، وصفة المقيم، مع أنها قد دلت على امتنان الله تعالى على عباده، وذلك بأن جعل لهم من جلود الأنعام بيوتاً يسهلُ عليهم حملها يوم سفرهم، كما أنه يسلُ عليهم بناؤها يوم إقامتهم.
فالآيةُ الكريمة دلت على أن من حمل بيته وسار في يومٍ واحد يسمى ظاعناً، وأنّ من بنى بيته، وقطع سيره في يوم واحد سُمي مقيماً، فاعتبار هذه الأوصاف عند تحديد الظعن والإقامة أمرٌ مهم.
ولو أشار الشيخ إليها لتُميز المسافر عن المقيم، هذا إذا حملنا اليوم الوارد في الآية على ظاهرة، أما إذا أولناه بالحين كما قال به بعض المفسرين، فإن مجرد الحط عن الرحال، ونصب الخيام يُعتبر غقامة لا ظعناً، فيجب على فاعلهِ الاتمام والصيام، مع أنه غير مستوطن، وعلى هذا الأمر فإن الآية الكريمة تدلُ على خلاف ما ذهب إليه ابن تيمية، وذلك أنه منع المقيم غير المستوطن من الإتمام، والآية تدلُ على أن مجرد إقامة اليوم أو الحين مخرجه له عن حكم المسافر.
-وقال رحمه الله وقد أقام النبي عليه الصلاة والسلام في حجته بمكة أربعة أيام، ثم ستة أيامٍ بمنى: “ومزدلفة وعرفة يقصر الصلاة هو وأصحابه، فدل على أنهم كانوا مسافرين، وأقام في غزوة الفتح تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة”.
ومن المعلوم بالعادة أن ما كان بفعل مكة وتبوك لم يكن ينقضي في ثلاثة أيام، ولا أربعة حتى يُقال: أنه كان يقول: اليوم أسافر، وغداً أسافر. بل فتح مكة وأهلها وما حولها كفار محاربون له، وهي أعظم مدينة فتحها وبفتحها ذلت الأعداء، وأسلمت العرب وسرى السريا إلى النواحي ينتظر قدومهم، مثل هذه الأمور مما يعلمُ أنها لا تنقضي في أربعة أيام، فعلم أنه أقام لأمور يعلم أنها لا تنقضي في أربعة، وكذلك في تبوك.
أما التعقيب على هذا الأمر هو: في هذا إشكال حيثُ سوى رحمه الله بين إقامتهِ صلى الله عليه وسلم في الحجّ، وإقامته في غزوتي مكة وتبوك، والصحيح أن بينهما فرقاً؛ لأن إقامتهُ لانتظار الحج مقصودة بداية ونهاية، بل من حين أنشأ سفره صلى الله عليه وسلم من المدينة لعلمه بما يحتاجه الطريق من الأيام، ولعلمه متى يبدأ الرجل إلى منى.
-قال رحمه الله أيضاً فمن جعل للمقام حداً من الأيام: إما ثلاثة، وإما أربعة، وإما عشرة، وإما اثني عشر وإما خمسة عشر، فإنه قال قولاً لا دليل عليه من وجهة الشرع، وهي تقديرات متقابلة.
لقد تضمنت هذه الأقوال وقسمت إلى ثلاثة أقسام وهي: مسافر وإلى مقيم مستوطن وهو الذي ينوي المقام في المكان، وهذا هو الذي تنعقد به الجمعة، وتجب عليه، وهذا يجب عليه إتمام الصلاة، بلا نزاع، فإنه المقيم المقابل للمسافر. والنوع الثالث المقيم غير المستوطن أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام وأوجبوا عليه الجمعة وقالوا: لا تنعقد به الجمعة وقالوا إنما تنعقدُ الجمعة بموستوطن.
أما التعقيب على هذا الأمر: هو أنه لا نسلم بصحة نفي تقسيم المُقيم إلى مستوطن، وغير مستوطن، ما لا بنفي وجوب الجمعة على من لا تنعقد به ولا يصح أيضاً قوله، بأنه لا دليل من الشرع على هذا التقسيم للأمور التالية:
أولاً: ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن البادية الذين يشترون في مكان، ويصيفون في مكان إذا كانوا في حال ظغنهم من المشتى إلى المصيف، ومن المصيف إلى المشتى، فإنهم يقصرون، وأما إذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم لم يفطروا ولم يقصروا وإن كانوا يتتبعون المراعي.
ثانياً: إن عموم قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ” الجمعة:9. يدل على وجوب السعي على كل من سمع النداء سواء كان مستوطناً أم بادياً أم مسافراً، ومن المقرر أنها لا تنعقد إلا بمن كان مستوطناً.
ثالثاً: اعتبر رحمه الله من كان معه في السفينة امرأته، وجميع مصالحهِ، ولا يزالُ مسافراً، فهذا لا يقصد ولا يفطر. فهو هنا أعطى هذا النوع من المسافرين أحكام المقيمين من حيث الإتمام والصيام، ولا يرى وجوب الجمعة عليهم، لعدم سماعهم النداء وعدم حضورهم أمصار المسلمين، فهو قد اعتبر استدامة السفر مخرجة للمسافر من أحكامه، ولذا أعطاه أحكام المقيمين وليست استدامة الإقامة مخرجة للمقيم أحكامه.
رابعاً: أما قوله:فمن جعل للمقام حداً من الأيام إما ثلاثة، وإما أربعة، وأما عشرة، وإما اثني عشر، وإما خمسة عشر، فإنه قال قولاً لا دليل عليه من جهة الشرع، وهي تقديرات متقابلة.
وأرى أن الصواب هو القول بتحديد ذلك بثلاثة أيام تامة ما عدا يومي الدخول والخروج؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قدم مكة بعد الفجر من اليوم الرابع ورحل إلى مِنى ضحى اليوم الثامن، فهو قدم أقام خمسة أيام بيومي الدخول والخروج، ثلاثة تامة، ويومانِ ناقصانِ، وهذا القول نتيجة للجمع بين الأدلة، وذلك أن القصر لا يجوز إلا لمن ضرب في الأرض، فمفهوم ذلك أن من توقف ضربهُ، فقد امتنع قصره؛ لأنه لما فقد الشرط فقد المشروط.
فلما ثبت قصر النبي عليه الصلاة والسلام بمكة عام حجة الوداع، وهو مقيم في الأبطح إقامة مقصودةً: معلومة البداية، ومعلومة النهاية، قلنا بجواز القصر في هذه المدة لوجود المخصص لها من حكم الإقامة، أما ما زاد على هذه المدة فلم يثبت فيها مخصص. ولا يصحُ أن يُقال بأن ما ثبت في الثلاثة يثبت فيما زاد عليها؛ لأن هذا الحكم إنما ثبت عن طريق الفعل لا القول، فلا يعم ذلك، لما تقرر في علم الأصول مع أنه لا عموم للأفعال.