نزول القرآن الكريم بالمعنى

اقرأ في هذا المقال


ذكر الزركشي في البرهان، وتبعه السيوطي في الإتقان، رحمهما الله تعالى، وهما يتحدثان عن نزول القرآن الكريم أقوالاً منها: نزول القرآن بالمعنى، أما لفظ القرآن فذهب بعضهم إلى أن جبريل هو الذي صاغ هذه الألفاظ، وذهب آخرون إلى أن الذي صاغ ألفاظ القرآن هو النبي صلى الله عليه وسلم، وشبهتهم في هذا القول فهمهم الخاطىء لقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّهُۥ لَتَنزِیلُ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِینُ (١٩٣) عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِیࣲّ مُّبِینࣲ (١٩٥)﴾ صدق الله العظيم [الشعراء ١٩٢-١٩٥].

وتفصيل هذه الشبهة أن الله سبحانه وتعالى بين للنبي صلى الله عليه وسلم أن الروح الأمين جبريل عليه السلام، نزل بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه، قالوا: والذي يناسب النزول على القلب هو المعنى، أما اللفظ فإنما يخص به السمع، ثم قال الله سبحانه وتعالى: (عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِیࣲّ مُّبِینࣲ (١٩٥) صدق الله العظيم، أي لتنذر الناس بلسان عربي، فقوله تعالى : (بِلِسَانٍ عَرَبِیࣲّ مُّبِینࣲ) متعلق بقوله تعالى: (مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ) أي: من المنذرين بلسان عربي، وهذا الفهم للآية الكريمة مردود من جوانب كثيرة.

أولاً: لا مانع أن ينزل المعنى واللفظ على قلب النبي، ونحن نرى في عصر التكنولوجيا العلم اليوم ما يسلب العقول، فهذه الإشارات التي ترسلها مركبات الفضاء من كواكب بيننا، وبينها ألوف الأميال ومئات الألوف ترسلها إشارات تتحول إلى ألفاظ هذا شأن البشر ولله المثل الأعلى.

ثانياً: أن تعلق قوله سبحانه وتعالى:( بِلِسَانٍ عَرَبِیࣲّ مُّبِینࣲ) بقوله: (عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ)صدق الله العظيم، ليس له كبير فائدة، فليس النبي وحده الذي ينذر بلسان عربي مبين، بل إن غيره من الأنبياء العرب كهود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل ومن بعده، كذلك من العرب كانوا ينذرون بلسان عربي، ثم إن الإنذار بهذا القرآن ليس للعرب وحدهم، قال تعالى: ﴿قُلۡ أَیُّ شَیۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَـٰدَةࣰۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِیدُۢ بَیۡنِی وَبَیۡنَكُمۡۚ وَأُوحِیَ إِلَیَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَىِٕنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّاۤ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهࣱ وَ ٰ⁠حِدࣱ وَإِنَّنِی بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ﴾ صدق الله العظيم [الأنعام ١٩].

وعلى هذا فإن المعنى الصحيح للآيات الكريمات، قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى(: نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِینُ (١٩٣) عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِینَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِیࣲّ مُّبِینࣲ (١٩٥)):  إما أن يتعلق بالمنذرين، فيكون المعنى: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة: هود، وصالح، وشعيب، وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام. وإما أن يتعلق بنزل، فيكون المعنى: نزله باللسان العربي(١) لتنذر به، لأنه لو نزله باللسان الأعجمى، لتجافوا عنه أصلا، ولقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به وفي هذا الوجه: أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك.

ثم إن هذه الفرية تتعارض مع كثير من الآيات الكريمة  مثل قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦۤ (١٦) إِنَّ عَلَیۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ (١٧) فَإِذَا قَرَأۡنَـٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَیۡنَا بَیَانَهُۥ (١٩)﴾ صدق الله العظيم [القيامة ١٦-١٩] فلو كان لفظ القرآن من عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم العجلة إذن، ثم هل يحتاج إلى بيان، ثم إن هذا متعارض مع قوله تعالى: ﴿إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ قُرۡءَ ٰ⁠ نًا عَرَبِیࣰّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ صدق الله العظيم [يوسف ٢] وقوله تعالى: ﴿قُرۡءَانًا عَرَبِیًّا غَیۡرَ ذِی عِوَجࣲ لَّعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ) صدق الله العظيم [الزمر ٢٨]، وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَیۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا۟ فِیهِ ٱخۡتِلَـٰفࣰا كَثِیرࣰا﴾ صدق الله العظيم [النساء ٨٢] وقوله تعالى:  ﴿قُل لَّوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوۡتُهُۥ عَلَیۡكُمۡ وَلَاۤ أَدۡرَىٰكُم بِهِۦۖ فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِیكُمۡ عُمُرࣰا مِّن قَبۡلِهِۦۤۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ﴾ صدق الله العظيم[يونس ١٦].


وقوله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلۡقِی عَلَیۡكَ قَوۡلࣰا ثَقِیلًا صدق الله العظيم﴾ [المزمل ٥]، فكيف يمكن أن نوفق بين نزول القرآن بالمعنى، وكونه قولاً ثقيلاً؟ والآيات التي ترد هذه الفرية لا يمكن أن نذكرها جميعاً لكثرتها، وكذلك ما جاء من أحاديث صحيحة كثيرة، ما جاء في نهاية ابن الأثير: فيه أنه قال فيما حكى عن ربه: ” وأنزل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من الأنبياء نبي إلا أُعطِيَ ما مِثلُه آمَن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة))؛ متفق عليه.


شارك المقالة: