ابتلاء يوسف عليه السلام بدخوله السجن:
لقد ابتُلي يوسف عليه السلام بالدخول إلى السجن بسبب امرأة العزيز ونساء طباقتها، فلم يجدو أي طريقةٍ لإسكات هذه الألسنة إلّا سجنُ يوسف عليه السلام الذي دلت جميع الآيات على برائته من أجل نسيان قصة امرأة العزيز، فقال تعالى تعالى: “ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ” يوسف:35. إن الحلول عند مثل هذه الطبقات من الناس هي السجن، وليس هذا بغريب على من يعبد آلهةً متعددة كانوا على عبادة غير الله، ولقد رأينا من قبل كيف تضييع حريات الناس حين ينصرفون عن عبادة الله إلى عبادة غيره، وها نحن نشاهدُ قصة يوسف عليه السلام شاهداً حيّاً يُصيب حتى الأنبياء، فقد صدروا قراراً باعتقاله وأدخل السجن بلا قضيةٍ أو محاكمةٍ، ببساطةٍ ويسر، ولا يصعب على مجتمع تحكمهُ عدة إلاهاتٌ متعددة أن يُسجن وهو بريء، بل لعلّ الصعوبة تكمن في محاولة شيءٍ غير ذلك.
لقد دخل يوسف عليه السلام ثابتُ القلب وهادئ الأعصاب وأقرب إلى الفرح؛ لأنه نجا من إلحاح زوجة العزيز ورفيقاتها ومن الثرثرة ومن تطفلات الخدم، فكان السجنُ بالنسبةِ إليه مكاناً هادئاً يخلو فيه ويفكر في ربه.
أفعال يوسف عليه السلام داخل السجن:
يختصرُ السياق القرآني على ما كان من أمرِ يوسف في السجن، لكن من الواضح بأنه انتهز فرصة دخوله السجن؛ ليقوم بنشر الدعوة إلى الله، مما جعل السجناء يتوسمون فيه الطيبة والصلاح وإحسان العبادةِ والذكر والسلوك. فقد صار يُحدثهم في السجن عن رحمة الخالق وعظمته وحبهِ لمخلوقاته، فكان يسأل أيهم أفضل أن ينهزم العقل ويعبد أرباباً متفرقين، أم ينتصر العقل ويعبد رب الكون العظيم، لقد كان يُقيم عليهم الحجة بتساؤلاته الهادئةِ وحواراتهُ الذكية وصفاء ذهنه ونقاء دعوته.
وفي السجن تقترب النفوس من بعضها، ودخل مع يوسف السجن رئيس الخبازين ورئيسُ السُقاة، وكان يعملان في قصر الملك، وكانت تهمتهما أن الخباز قد تآمر على الملك والساقي كان سيضع له السم في الشراب، فقد رأى كل منهما منهما رؤيا، وطلب أن يفسرها له يوسف، وهنا نعلم أنهما لا بدّ قد مكثا مع يوسف فترةً طويلة؛ لأن هذه الأشياء لا تحدث بين يومٍ وليلة، بل لا بدّ من طول العشرة الذي جعلهما يلجآن إلى يوسف في كل أمر يهمهما؛ ولأنهما رأيا في يوسف الإنسان السوي صاحب الخلق الحسن.
فقال تعالى: “وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ” يوسف:36. فقد بينت الآية الكريمة أنّ واحداً منهم رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه، والثاني رأى أنه يعصر خمراً، فقد عرفا الأثنين أن يوسف عليه السلام يؤل الأحلام وبأنه صادقُ فيما يقول وسواء جربا ذلك على نفسيهما أو حدث ذلك بالنسبة لمسجونين آخرين فإنهما قد تأكدا من علم يوسف عليه السلام بتأويل الأحلام، فقال: “إنّا نراك من المُحسنين” وهي سبب سؤالهما له في الرؤيا التي رآها، ولذلك أن يسبق سؤالهما أن هناك أشياء صدرت منه، بينت أنه من المحسنين، كما يدل على أن الإحسان ظاهر في يوسف عليه السلام، أي أنهما ليسا محتاجين لتتبع عمله؛ لأن كل ما يعملهُ يوسف هو في مقام الإحسان، فكأنما المسألة واضحة كرؤية العين لا تحتاج إلى ذكاء وفكر؛ ولأن يوسف منهجه مستقيم وملتزم، ورأى من أكبر هذه الخصلة فيه لا بدّ أن هذين الشخصين عندهما بداية إيمان وإحسان، ولذلك قرر قبل أن يعطيهما حاجتهما أن يأخذ حاجته منهما أولاً.
وهكذا كان يوسف حريصاً على أن يأخذ حاجته منهما قبل أن يُجيبهما إلى طلبهما، ويقول لهما ما يريد أولاً، ويكون بذلك قد شغلهما بشيءٍ أنفعُ لهما، وخيرٌ مما يسألان عنه؛ لأن هذا تذكير المنهج، لكن الجواب كان جزيئة صغيرةً في حياتهما، وقال كما يقص علينا كتاب الله تعالى: “قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ” يوسف:37. إنه يقول لهما: إنه يعلمُ أشياء كثيرة غير التي يشاهدونها ظاهرة عليه، ثم أراد أن يأخذهما إلى اللفتة الإيمانية، فقال: إن هذه ليست من عندي ولا خصوصية لي؛ لأن هذه علمها عند ربي، وربي لم يُعلمها لي وحدي، فكان قول يوسف عليه السلام: “قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ –وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ” يوسف:37-38.
إن دخول يوسف السجن لم يكن للإنحراف، ولكن رفضاً للانحراف، ومعه في السجن قومٌ دخلوه؛ لأنهم منحرفون، لذلك رأو فيه الإحسان: “إنّا نراك من المحسنين” فقد ارتفع فعل وسلوك يوسف الصديق في نظر المنحرفين والقيم الرفيعة وهي معروفة حتى عند المنحرف.