تحقيق أمنية يوسف عليه السلام في رؤية أخيه

اقرأ في هذا المقال


تحقيق أمنية يوسف عليه السلام بأن يجتمع بشقيقه:

إن في هذه القصة ننتقلُ إلى مرحلة عودة الإخوة العشرةِ إلى مصر بصحبة شقيق يوسف عليه السلام، فحين وصل إخوة يوسف إليه، ورأى يوسف عليه السلام أخاه، أخذهُ وضمهُ إليه، وفي ذلك يقول تعالى: “وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ ۖ” يوسف:69. وكان يوسف متشوقاً إلى أخيه الذي لم يره منذ سنواتٍ طويلة، وقد كان شقيقه من أبٍ واحد وأمٍ واحدة، وأراد يوسف أن يطمئن أخاهُ؛ لأنه لم يكن يدري شيئاً عن قصة يوسف والبئر؛ لأنه كان صغيراً، قال: “قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” يوسف:69. أي لا تحزن فأنا أخوك يوسف، وقوله تعالى: “بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” دليلٌ على أنهم كانوا يعاملونه معاملةً مهينة، حقداً منهم كما حقدوا على يوسف لحب أبيه له.
الحق سبحانه وتعالى يقول: “فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ” يوسف:70. أي أنه أعطاهم ما يريدونه من القمح والطعام، وكل ما طلبوه وجعل السقاية في رحل أخيه، والسقاية تُطلق إطلاقات متعددة منها سقاية الماء مصداقاً لقوله تعالى: “فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ” يوسف:70. إذن فالسقايةُ هي المكان الذي يوضع فيه الماء؛ ليشرب منهُ الناس، والسقايةُ هي الإناء الذي يُملأ بالماء، ويعطى للناس لتشرب، وما داموا قد وضعوها في المكان الذي يوضع فيه ما يحملهُ البعير فهي إناء يَشرب منه الملك مثلُ الكأس، وأحياناً يجعلونهُ مكيالاً وهو في العادة يكون نفيساً.
ويقولون: السّقاية هي الصواع أو الصاع، فهي تُطلق على المكان الذي يوجد فيه الماء وعلى الآلة التي يُرفع بها من المكان إلى فم الشارب، “وجَعَلَ” وكلمة جعل لا تعني أنه قام بنفسه بهذا الفعل، بل أنه أمر القائمين بالكيل أن يجعلوا السقاية في رحل أخيه. ثم بعد ذلك جاءَ رجلٌ من الحاضرين، وقال بصوتٍ مرتفع: أيها العير إنكم لسارقون، أي أنهم اتهموهم بالسرقة، وهذا إنهامٌ خطير شدّ انتباههم، لقد كانوا جالسين متفرقين أو بعيدين عن الإبل التي تحمل القمح، فلما سمعوا ذلك المُنادي، تنبهوا وأقبلوا يسألونه: ما الذي ضاع؟ الحق سبحانه وتعالى يقول: “قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَقَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ” يوسف: 71-72.
إذن، فصواع الملك هو الذي وضعوه في راحلة أخي يوسف، ولقد وضع صواع الملك؛ لتكون جريمة كبرى في حق الملك، ولا بد لها من عقاب، ولا تنفع فيها الشفاعة، ثم قال الذي كلف بإعلان نبأ السرقة: “وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ” أي أن الذي سيأتينا بهذا الصواع لن نعاقبه، بل سنعطيه حمل بعير زيادة. والسرقة اتهام قبيح ولذلك أسرع إخوة يوسف يقسمون بالله إنهم لم يسرقوا شيئاً، وقالوا: “تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ” أي أنهم أقسموا أنهم ما جاءوا ليفسدوا في الأرض، وأنهم أمناء لا يسرقون؛ لأنهم من الأسباط، ولا تمتد أيديهم إلى السرقة.
أراد يوسف أن يأخذ أخاه بحيلة لا ينتبهون إلى أنها مدبرة، أو أنه هو يوسف؛ لذلك أمر رجاله فقالوا: “قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ” يوسف:74. وهذا هو القصد الذي أراد يوسف أن يصل إليه، هو أن يترك إخوته يحددون العقوبة على أخيهم، ويكون الحكم برضاهم ولا يمكن أن يتراجعوا فيه، وهنا قال إخوة يوسف: “مَن وُجد في رَحلِهِ فهو جزاؤهُ” وهذه هي القضية، لقد صدر الحكم من إخوة يوسف عليه السلام: “مَن وُجد في رَحلِهِ فهو جزاؤهُ” وهذه هي القضية، لقد صدر الحكم من إخوة يوسف، وبرضاهم ولا يستطيعون التراجع فيه، ويوسف أمر رجاله أن يضعوا صواع الملك في رحل أخيه، ليأخذه ويُبقيه عنده، وقال تعالى: ” كذلكَ كِدنا ليُوسُفَ” ولم يقل: كدنا يوسف؛ لأن الكيد لم يقع على يوسف، وإنما كان له ولم يكن عليه.

ما الذي فعله رجال يوسف عليه السلام حين توقفت القافلة؟

لقد أمر يوسف عليه السلام رجاله أن يبدءوا أولاً بأمتعة إخوته، والإبل التي جاءوا بها، وأن يتركوا البعير الخاص بأخيه من أمه آخر ما يُفتشونه، فيقول الله تعالى: “فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ” لأنه لو بدأ بوعاء أخيه أولاً، لا نكشفت الحيلة، ولكنه بدأ بأوعيتهم أولاً، وآخر ما فتشوا كان وعاء أخيه. ثم يقول الحق تعالى: “فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ” يوسف:76. أي أن الله تعالى حقق ليوسف عليه السلام ما تمناه في أن يكون شقيقهُ معه، وأعطاه من العلم ما جعله ينتصر على أشقائه، أي علمهُ سبحانه الكيد لصالحهِ، وما كان له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلّا أن يشاء الله. وقوله تعالى: “نرفعُ درجاتٍ من يشاءُ” تدلنا على أن اتهام شقيق يوسف بالسرقة، لم يكن لكي يعذب في الآخرة، ويُقام عليه الحدّ في الدنيا فهو في الحقيقة برئ لم يسرق، ولكن كان هذا لرفع درجته في الدنيا والآخرة، حيث سيعيش مع أخيه عزيز مصر عيشه رغدة، بعد أن كان إخوته يحقدون عليه، ويجعلون حياته مليئة بالمضايات، وفي نفس الوقت سيكون مع نبي الله يوسف عليه السلام، فيزداد علوّاً في الآخرة بتطبيقة منهج الله الصحيح، فكأن الله سبحانه وتعالى حينما كادَ ليوسف بالإتهام بالسرقة الذي وُجه إلى أخيه، كان ذلك في رفع الدرجات الله تعالى يُلفتنا هنا، إلى الّا نأخذ أقداره بمظهرها فقط، بل نعرف أنّ لها حكمة، وكثير من المصائب التي تحدث للناس، قد لا يعرفون أنها تؤدي بهم إلى خيرٍ كثير، ولذلك فإن كل أقدار الله التي تحدث للإنسان، من غير رأي أو اختيارٍ منه لا بدّ أن يتقبلها؛ لأن لله فيها منحة وعلو درجةٍ ولذلك يقول الله تعالى: “وفَوقَ كلّ ذي علمٍ عليم” أي صاحب العلم.
فالحقُ يُريد أن يُثبت لنا أن إخوة يوسف قالوا للعزيز: أن يسرق، فلا تتعجب يا عزيز مصر؛ لأن هذه خصلةً في أولاد راحيل، فقد سرقَ أخوه الأكبر من قبلُ، وهكذا اتهموا يوسف وأظهروا حقدهم عليه، وهم لا يعلمون أنه هو أخوه الأكبر وأنه عزيز مصر، فحين سمع يوسف بهذا فقد خرجت الكلمات عن استقامتها؛ لأن اتهام إنسان برئ بالسرقة، فلا بد أن هذا الكلام أحزنه وآلمهُ، ولذلك لا بدّ أن يحدث انفعالٌ مضاد، فهذا الإنفعال إمّا أن يبقى داخل النفس فلا يخرج، وإما أن يظهر فيحدث ردةُ فعلٍ عنيفة.
وكان يوسف عليه السلام لا يستطيع أن يُبرئ نفسهُ وأخاهُ من تهمة السرقة، كان يستطيع أن يقول لهم؟ أنا لم أسرق وأخي لم يسرق، وأنتم الذين يملأ الحقد قلوبكم علينا، ولكنه لو فعل ذلك لظهرت شخصيتهُ الحقيقيةِ، لكنه أراد أن يبقى مجهولاً لديهم، فهو بريءٌ من السرقة وأخوه بريء ولكنه لم يستطع التكلم، فقال تعالى: “فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ۚ” فالإتهامُ قد أثار في نفس يوسف انفعالات كثيرةً ولكنهُ كتمها داخل نفسهِ، فقال يوسف: “قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا” لماذا قيل هذا الكلام؛ لأنهم جاءوا بقصةٍ كاذبة، وبأن يوسف أكلهُ الذئب، كما أنهم يؤكدون إتهاماً باطلاً بأنّ يوسف سرق، ولكن الصحيح أنّ يوسف عليه السلام لم يسرق ولم يأكلهُ الذئب، ولكن أنتم الذين سرقتم طفلاً من أبيه هو يوسف عليه السلام.
إنّ إخوة يوسف حين أحسوا أن أخاهم سيُؤخذ منهم وأنهم سيعودون إلى أبيهم من غيره، تذكروا وعدهم لأبيهم، فبدءوا يستعطفون يوسف عليه السلام، الذي لم يعرفوا شخصيته الحقيقية، من أجل إطلاق سراحِ أخيه، فقال تعالى: ” قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ” يوسف:78. فقد حالوا أن يستخدموا الضعف؛ لأجل أن يرق قلب يوسف ويترك أخاهم،، قالوا: إنّ لهم أباً عظيماً في قومه وهو شيخٌ كبير، وإذا بلغه أن ابنه قد سرق، فهذه تهذهُ من داخل نفسه، وتهزهُ في شرفه بين قومه تماماً كما يُتهم إنسان في جريمة، وتقول: اتركوه؛ لأن أبويه صالحان كريماًن فلا تفضحوهما، وسواء كانوا يقصدون شيخاً كبيراً، كبر في مقامه بين قومه أو كبر في سنة بحيث لا يتحملُ الصدمة. فانطلق كل واحدٍ منهم يعرضُ نفسهُ بدل أخونا هذا، فقال تعالى: “فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ” أي أنه إذا كان لا بدّ أن تأخذ واحداً منا بجريمة السرقة التي حدثت، واتركهُ هو يعود لأبيه، فهنا ردّ يوسف عليه السلام قائلاً: “قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ” يوسف:79 أي أن يوسف رفض أن يأخذ مكانه أحداً آخر وقال لا أريدُ إلّا الحق، ولو أخذت إنسناً بذنب إنسانٍ آخر أكون من الظالمين.


شارك المقالة: