اقرأ في هذا المقال
حفظ النبي صلى الله عليه وسلم.
كان رسول الله صلى الله ينتظر نزول الوحي بلهفة وشوق، وكانت همَّته بادىء الأمر تنصرَّف إلى حفظ كلام الله المنزل وفهمه ، ثمَّ يقرؤه على الناس على مكث، ليحفظوه ويستظهروه في صدورهم، لأنَّه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يعرف القراءة والكتابة، وقد بعثه الله في أمَّة تغلب عليها الأمية، قال تعالى (١) هُوَ ٱلَّذِی بَعَثَ فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ رَسُولࣰا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلُ لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ ﴾ [الجمعة ١-٢]
وقد بلغ من حرَص النبي صلى الله عليه وسلَّم على حفظ القرآن : أنَّه كان يُردِّده أثناء نزول الوحي عليه مخافة أن تفوته كلمة أو ينسى حرفاً، حتى طمأنه ربُّه عز وجل وتكفل له بحفظه في صدره وعدم نسيانه بعد سماعه من الوحي ، قال تعالى ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦۤ (١٦) إِنَّ عَلَیۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ (١٧) فَإِذَا قَرَأۡنَـٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَیۡنَا بَیَانَهُۥ (١٩)﴾ [القيامة ١٦-١٩] وقال تعالى ﴿فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۗ وَلَا تَعۡجَلۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مِن قَبۡلِ أَن یُقۡضَىٰۤ إِلَیۡكَ وَحۡیُهُۥۖ وَقُل رَّبِّ زِدۡنِی عِلۡمࣰا﴾ [طه ١١٤] وقال تعالى ( سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰۤ (٦) إِلَّا مَا شَاۤءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ یَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ وَمَا یَخۡفَىٰ (٧)﴾ [الأعلى -٧]
ومن هنا نستطيع أن نعلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان أول جامع للقرآن في صدره الشريف وسٍّيد الحفاظ ، ومرجع الصحابة في حفظهم للقرآن وفهمهم له، وكان يحيي القرآن ليلة وُيزين به صلاته، وكان جبريل يعارضه إياه في كلِّ عامٍ مرَّة، وعارضه إياه في العالم الأخير مرَّتين .
[عن عائشة أم المؤمنين:] أَقْبَلَتْ فاطِمَةُ تَمْشِي كَأنَّ مِشْيَتَها مَشْيُ النبيِّ ﷺ، فَقالَ النبيُّ ﷺ: مَرْحَبًا بابْنَتي ثُمَّ أجْلَسَها عن يَمِينِهِ، أوْ عن شِمالِهِ، ثُمَّ أسَرَّ إلَيْها حَدِيثًا فَبَكَتْ، فَقُلتُ لَها: لِمَ تَبْكِينَ؟ ثُمَّ أسَرَّ إلَيْها حَدِيثًا فَضَحِكَتْ، فَقُلتُ: ما رَأَيْتُ كاليَومِ فَرَحًا أقْرَبَ مِن حُزْنٍ، فَسَأَلْتُها عَمّا قالَ: فَقالَتْ: ما كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسولِ اللَّهِ ﷺ، حتّى قُبِضَ النبيُّ ﷺ، فَسَأَلْتُها. فَقالَتْ: أسَرَّ إلَيَّ: إنَّ جِبْرِيلَ كانَ يُعارِضُنِي القُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وإنَّه عارَضَنِي العامَ مَرَّتَيْنِ، ولا أُراهُ إلّا حَضَرَ أجَلِي، وإنَّكِ أوَّلُ أهْلِ بَيْتي لَحاقًا بي. فَبَكَيْتُ، فَقالَ: أما تَرْضَيْنَ أنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِساءِ أهْلِ الجَنَّةِ، أوْ نِساءِ المُؤْمِنِينَ فَضَحِكْتُ لذلكَ.
البخاري (٢٥٦ هـ)، صحيح البخاري ٣٦٢٣
حفظ الصحابة للقرآن :
وأما الصَّحابة الذين كان يتنزَّل الوحي على رسول الله بعلمهم ومشاهدتهم ، فكان لهم الأسوة الحسنة برسول الله عليه وسلم بالإسراع إلى حفظ القرآن واستظهار آياته، وقد ساعدهم نزول القرآن منُّجَّماً على الحفظ كما علمت، وأنَّ الأمَّة العربية قوية الذّاكرة بالسجية، يُساعدها على ذلك بيئة صافية بسيطة، كما أنَّ الأمي يُحاول أن يعوِّض بالحفظ ما فاته بالقراءة والكتابة .
والنُّصوص الواردة في كتب السير والسُّنن تدل على أنَّ الصحابة كانوا يتنافسون في حفظ القرآن، فيبعث إلى القبائل من يعلٍّمهم ويقُرئهم القرآن .
والنصوص الواردة في كتب السير والسُّنن تدلُّ على أنَّ الصَّحابة كانوا يتنافسون في حفظه القرآن ، ويحفِّظون أزواجهم وأولادهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يُذكي فيهم روح العناية بالقرآن ، فيبعث إلى القبائل من أصحابه من يعلمهم ويقرئهم القرآن .
[عن عبادة بن الصامت:] كان رسولُ اللهِ ﷺ يُشغَلُ، فإذا قَدِمَ رَجُلٌ مُهاجِرٌ على رسولِ اللهِ ﷺ دَفَعَه إلى رَجُلٍ منّا يُعلِّمُه القُرآنَ، فدَفَعَ إليَّ رسولُ اللهِ ﷺ رَجُلًا، فكان معي في البَيتِ أُعشِّيه عَشاءَ أهلِ البَيتِ، فكنتُ أُقرِئُه القُرآنَ، فانصرَفَ انصِرافةً إلى أهلِه، فرَأى أنَّ عليه حَقًّا، فأهدى إليَّ قَوسًا لم أرَ أجوَدَ منها عُودًا ولا أحسَنَ منها عِطْفًا، فأتَيتُ رسولَ اللهِ ﷺ فقُلْتُ: ما تَرى يا رسولَ اللهِ، فيها؟ قال: جَمرةٌ بيْنَ كَتِفَيكَ تَقلَّدتَها -أو تَعلَّقتَها. إسناده حسن أخرجه أبو داود (٣٤١٧)، وأحمد (٢٢٧٦٦)
وكان يُسمع لمسجد رسول صلى الله عليه وسلم ضجَّة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أن يُخفضوا أصواتهم لئلّا يتغالطوا .
وبذلك كلِّه نستطيع أن نؤكِّد أنَّ حفاظ القرآن من الصحابة في حياة النبي جمع غفير، ويكفي دليلاً على ذلك أنَّ الذين قُتلوا في بئر معونة من الصَّحابة كان يُقال لهم القرِّاء، وكانوا سبعين رجلاً ، قال الإمام القرطبي : وقد قُتل في عهد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ببئر معونة مثل هذا العدد .
وذكر أبو عبيد في كتاب (القراءات) القرَّاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم فَعدَّ من المهاجرين : الخلفاء الأربعة، وطلحة، وسعداً، وابن مسعود، وابن مسعود، وحذيفة، وسالماً، وأبا هريرة ، وعبدالله بن السائب، والعبادلة ، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة .
ومن الأنصار : عبادة بن الصَّامت ، ومعاذاً- الذي يُكنَّى أبا حليمة- ومجمع جارية ، وفَضالة بن عبيد ، ومسلمة بن مخلد، وصرَّح بأنَّ بعضهم إنَّما كمَّله بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
وذكر الحافظ الذَّهبي في (طبقات القرّاء) أنَّ هذا العدد من القرَّاء هم الذين عرضوه على النبي صلى الله عليه وسلَّم ، واتصلت أسانيدهم، وأمَّا من جمعه منهم ولم يتَّصل سندهم فكثير .
والاعتماد على الحفظ في النقل من خصائص هذه الأمَّة، فقد ورد [عن عبدالله بن مسعود:] صِفَتي أحمدُ – أي النبي صلى الله عليهم – المتوَكِّلُ، ليسَ بفظٍّ ولا غليظٍ، يَجزي بالحسَنةِ الحسَنةَ، ولا يُكافئُ بالسَّيِّئةِ، مولِدُهُ بمَكَّةَ، ومُهاجَرُهُ طَيبةٌ، وأُمَّتُهُ الحمّادونَ، يأتَزرونَ على أنصافِهِم، ويوضِّئونَ أطرافَهُم، أناجيلُهُم في صدورِهِم، يَصفُّونَ للصَّلاةِ كما يَصفُّونَ للقتالِ، قُربانُهُم الَّذي يتقرَّبونَ بهِ إليَّ دماؤُهُم، رُهْبانٌ باللَّيلِ، لُيوثٌ بالنَّهارِ
السيوطي (٩١١ هـ)، الجامع الصغير ٤٩٨٢ • حسن
كتابة القرآن في السطور :
لم يكتف النبي صلَّى الله عليه وسلم بحفظ القرآن في صدره الشريف وفي صدر أصحابه، وإنَّما كان يأمر بكتابة ما ينزل من الآيات في السطور، واتخذ كتَّاباً للوحي من أجلَّاء الصحابة ، تنزل الآية أو الآيات، فيأمرهم النبي بكتاباتها ويرشدهم إلى موضعها من سورتها، وكان بعض الصَّحابة يكتبون ابتداءً من أنفسهم، وكانت الوسائل المتوفرة البداية وتحتاج إلى مشقَّة، ومع ذلك كتبوا العسُب والَّلحاف والرِّقاع.
فقد وردَ عن البراء بن عازب: لَمّا نَزلت لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآيةَ جاءَ عمرُو بنُ أمِّ مَكتومٍ إلى النَّبيِّ ﷺ: وَكانَ ضريرَ البصرِ، فقال: يا رسولَ اللَّهِ ما تأمرُني؟ إنِّي ضريرُ البصرِ؟ فأنزلَ اللَّهُ هذِهِ الآية: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ الآيةَ. فقالَ النَّبيُّ ﷺ: ائتوني بالكتِفِ والدَّواة، أو اللَّوحِ والدَّواةِ. أخرجه البخاري (٤٩٩٠)، ومسلم (١٨٩٨)، والترمذي (٣٠٣١) واللفظ له، والنسائي (٣١٠٢)، وأحمد (١٨٦٥٣)
وروي [عن عثمان بن عفان:] قلتُ لعُثمانَ ما حملَكُم على أن عمِدتُمْ إلى الأنفالِ وَهيَ منَ المثاني وإلى براءةَ وَهيَ منَ المِئينَ فقَرنتُمْ بينَهُما ولم تَكْتُبوا بينَهُما سطَّرَ بسمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ ووضعتُموها في السَّبعِ الطُّوالِ ما حملَكُم على ذلِكَ فقالَ عُثمانُ كانَ رسولُ اللَّهِ ﷺ مِمّا يأتي علَيهِ الزَّمانُ وَهوَ تنزلُ علَيهِ السُّوَرُ ذواتُ العددِ فَكانَ إذا نزلَ علَيهِ الشَّيءُ دعا بعضَ مَن كانَ يَكْتبُ فيقولُ ضعوا هذِهِ الآيةَ الَّتي يُذكَرُ فيها كذا وَكَذا وَكانتِ الأنفالُ مِن أوائلِ ما أُنزِلت بالمدينةِ وَكانَت براءةٌ من آخرِ القرآنِ وَكانَت قصَّتُها شَبيهةً بقصَّتِها فظنَنتُ أنَّها منها فقُبِضَ رسولُ اللَّهِ ﷺ ولم يبيِّنْ لَنا أنَّها منها فمِن أجلِ ذلِكَ قَرنتُ بينَهُما ولم أَكْتب بينَهُما سطرَ بسمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ فوضعتُها في السَّبعِ الطُّوالِ . الترمذي (٢٧٩ هـ)، سنن الترمذي ٣٠٨٦ • حسن صحيح
وروي [عن أبي سعيد الخدري:] لا تَكْتبوا عنِّي شيئًا سِوى القُرآنِ، من كتبَ عنِّي شيئًا سِوى القُرآنِ فليَمحُهُ. السخاوي (٩٠٢ هـ). فتح المغيث ٢/١٥٩ •
[عن زيد بن ثابت:] كنّا عندَ رسولِ اللهِ ﷺ نؤلِّفُ القرآنَ مِن الرِّقاعِ . صحيح ابن حبان ١١٤ • أخرجه في صحيحه .
وكان المكتوب يُوضع في بيت رسول الله، ولم تكن هذه الكتابة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام مجتمعة في مصحف عام .
وُقبض رسول الله عليه وسلم والقرآن محفوظ في صدور أصحابه، ومكتوب منثوراَ بين الرِّقاع ونحوها، وكان الجمع بين الطريقتين في عهد النبي المبارك الميمون مصداقاَ لقوله تعالى ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ﴾ [الحجر ٩]
ترتيب آيات القرآن الكريم :
ترتيب الآيات في القرآن على الشكل الذي نراه اليوم في المصاحف توقيفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا مجال للرأي والاجتهاد فيه ، وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك، منهم الزركشي في البرهان ، وابو جعفر بن الزبير في كتابه (المناسبات ) إذ يقول : ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه وأمره من غير خلاف بين المسلمين .
وجزم الإمام السيوطي بذلك فقال : الإجماع والنصوص المترادفة على أن الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، فكان جبريل ينزل بالآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرشده إلى موضعها من السورة ، فيقرؤها النبيُ على أصحابه ، ثم يأمر كتَّاب الوحي بكتابتها في موضعها الذي حدده جبريل عليه السلام .
واستند الإجماع المنقول في هذا الموضوع إلى نصوص كثيرة وثابتة منها :
[عن عثمان بن أبي العاص الثقفي:] كنتُ عندَ رسولِ اللهِ ﷺ جالسًا إذْ شخُصَ ببصرِهِ ثمَّ صوَّبَهُ حتى كادَ أنْ يَلْزَقَ بالأرضِ قال وشخُصَ ببصرِه قال أتاني جبريلُ فأمرَني أن أضعَ هذه الآيةَ بهذا الموضعِ من هذه السورةِ إنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
مجمع الزوائد ٧/٥١ • إسناده حسن.
وما أخرجه البخاري [عن عبدالله بن الزبير:] قُلتُ: لِعُثْمانَ بنِ عَفّانَ {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُم ويَذَرُونَ أزْواجًا} قالَ: قدْ نَسَخَتْها الآيَةُ الأُخْرى، فَلِمَ تَكْتُبُها؟ أوْ تَدَعُها؟ قالَ: يا ابْنَ أخِي لا أُغَيِّرُ شيئًا منه مِن مَكانِهِ.
البخاري (٢٥٦ هـ)، صحيح البخاري ٤٥٣٠ • [صحيح]