المكان الذي يبدأ فيه المسافر صلاة القصر:
لا يصحُ للمسافر أن يقصر الصلاة قبل أن يشرع في سفره ويفارق محل إقامته بمسافة مفصلة في المذاهب:
المكان الذي يبدأ فيه المسافر صلاة القصر عند الشافعية:
لقد قالوا الشافعية: أنه لا بدّ أن يصل إلى مكانٍ يُعد فيه مسافراً عرفاً، وبداية السفر لساكن الأبنية يحدثُ بمجاوزة سورٍ مختص بالمكان الذي سافر منه إذا كان ذلك السور صوب الجهة التي يَقصدها المُسافر، وإن كان داخله أماكن خربة ومزارع ودور؛ لأن ذلك يُعد من ضمن المكان الذي سافر منهُ، ولا عبرة بالخندق والقنطرة مع وجود السور، ومثل السور ما يقيمه أهلُ القُرى من السجور، فإذا لم يوجد السور المذكور، وكان هناك قنطرة أو خندق فلا بد من مجاوزتهِ، فإن لم يوجد شيء من ذلك فالعبرةُ هي مجاوزة العمران وإن تخللهُ خرابٌ.
لا يُشترطُ مجاوزة الخراب الذي في طرفِ العمرانِ إذا ذهبت أصول حيطانهِ، ولا مجاوزة المزارع ولا البساتين، ولو بُنيت بها قصوراً أو بيوتٌ تسكنُ في بعض فصول السنة، لا بد من مجاوزة المقابرِ المتصلة بالقرية التي لا يوجد لها سور، وإن اتصل مثلاً بالبلد عرفاً قرية أو قريتان، فإنه يُشترط مجاوزتهما إن لم يكن بينهما سورٌ، وإلا فالشرطُ هنا هو مجاوزةُ السور، فإن لم تكونا متصلتين نكتفي بمجاوزة قرية المسافر عُرفاً.
أما القصور التي في البساتين زالتي تكون متصلةً بالبلد، فإن كانت تضمن في كل السنة فإنّ حكمها مثل القريتين المذكورتين، وإلا فلا. وابتداء السفر لساكن الخيام يكون بمجاورة تلك الخيام ومرافقها، كمطرح الرماد وملعبِ الصبيان ومرابطُ الخيل، ولا بد أيضا من مجاوزة المهبط إن كان في ربوةٍ، ومجاوزة المصعد إن كان في منخفض، ولا بد أيضاً من مجاوزة عرض الوادي إن سافر فيعرضهُ، وهذا إذا لم يخرج المهبط والمصعدُ والوادي عن الاعتدال، أما لو اتسع شيءٌ منها جداً فيكتفي بمجاوزة الحلّة، وهي البيوت التي يجتمعُ أهلها للسمر، ويقدرون استعارة لوازمهم من بعض البعض، أما المسافر الذي سكن غير الأبنية وغير الخيام، فإنّ ابتداء سفرهِ يكونُ بمجاوزة محلُ رحله ومرافقه.
المكان الذي يبدأ فيه المسافر صلاة القصر عند الحنابلة:
قال الحنابلةُ في موضوع المكان الذي يبدأ فيه المُسافر في قصر الصلاة، بأنه يُقصرُ المسافر إن رحلَ عن بيوت محلّ إقامتهِ العامرةُ بما يُعد عُرفاً، سواء كانت أنها داخل السور أو خارجه، وسواء اتصل بها بيوت خربة أو صحراء، أما إذا اتصل بالبيوت الخربة بيوت عامرة، فلا يقصر إلا إذا فارقهما معاً، وكذا لا يقصر إذا اتصل بالخراب بساتين يسكنها أصحابها للرياضة في الصيف مثلاً، إلا إذا جاوز تلك البساتين، أما إذا كان من سكان الخيام أو من سكان القصور أو البساتين، فلا يقصر حتى يفارق خيامه أو المكان الذي نسب إليه البساتين أو القصور عرفاً، وكذا إذا كان من سكان عزب مصنوعة من أعواد الذرة ونحوها، فإنه لا يقصر حتى يفارق محل إقامة قومه.
المكان الذي يبدأ فيه المسافر صلاة القصر عند الحنفية:
أما رأيُ الحنفية هو أنه من قصدَ سفرهُ مسافة القصرِ المُتقدمِ بيانه قصر الصلاة حينما يتجاوزُ العمران من موضعِ إقامتهِ، سواء أنهُ كان مقيماً في المصر أو في غيره، فإن خرج من المصر لا يقصر إلا إذا جاوز بيوته من الجهة التي خرج منها، وإن كان بإزائه بيوتٌ من جهة ثانية، ويلزم أن يجاوز كل البيوت، ولو كانت متفرقة متى كان أصلها من المصر، فلو انفصلت عن المصر محلةً كانت متصلة بها قبل ذلك الانفصال لا يقصرُ إلا إذا جاوزها، وذلك بشرط أن تكون عامرة.
أما إن كانت خِربة ولا يوجد فيها سكان، فلا يلزم مجاوزتها؛ ويشترط بأن يجاوز ما حول المصر من المساكن، وأن يجاوز القرى المتصلة بذلك؛ وهذا بعكس القرى المتصلة بالفناء، فإنه لا يشترط مجاوزتها، ولا يشترطُ أن تغيب البيوتُ عن بصره، وإذا خرج من الأخبية الخيام لا يكون مسافراً إلا إذا جاوزها، سواء كانت متصلة أو متفرقة، أما إذا كان مقيماً على ماء أو محتطب، فإنه يعتبر مسافراً إذا فراق الماء أو المحتطب ما لم يكن المُحتطب واسعاً جداً، أو النهر بعيد المنبع أو المصب، فالعبرة هي بمجاوزة العمران، ويشترط أيضاً أن يجاوز الفناء المُتصل بموضع إقامته ألّا وهو المكان المعدّ لمصالح السكان.
المكان الذي يبدأ فيه المسافر صلاة القصر عند المالكية:
قال المالكيةُ: إنّ المُسافر إما أن يكونُ مسافراً من أبنيةٍ أو من خيامٍ وهو البدوي، أو من محلِ لا بناءَ به ولا خيام، مثلُ ساكن الجبل، فالشخصُ المسافر من البلد لا يقصر إلا إذا جاوز بنيانها والفضاء الذي حواليها، والبساتينُ المسكونة بأهلها ولو في بعض العام، وذلك بشرطِ أن تكون متصلةً بالبلد حقيقة أو حكماً، وبأن كان ساكنوها ينتفعونُ بأهلِ البلد، فإن كانت غير مسكونةٍ بالأهل في وقت من العام، فلا تُشترط مجاوزتها كالمزارعِ مثلاً، وكذا إذا كانت منفصلة عن البلد، ولا ينتفع ساكنوها بأهلها، فلا تشترط مجاوزتها، ولا يشترط مجاوزة ثلاثة أميال من سور بلد الجمعة على المعتمد، بل العبرة بمجاوزة البساتين المذكورة فقط، ولو كان مسافراً من بلد تقام فيها الجمعة، ومثل البساتين القريبة المتصلة بالبلد التي سافر منها إذا كان أهلها ينتفعون بأهل البلد، فلا بد من مجاوزتها أيضاً، فالعزب المتجاورة متى كان بين سكانها ارتفاق، فهي كبلد واحد، فلا يقصر المسافر من عربة منها حتى يجاوز الجميع، وأما ساكن الخيام فلا يقصر إذا سافر حتى يجاوز جميع الخيام، التي يجمع سكانها اسم قبيلة ودار واحدة؛ أو اسم الدار فقط، فإن جمعهم اسم القبيلة فقط أو لم يجتمعوا في قبيلة ولا دار، فإن كان بينهما ارتفاق فلا بد من مجاوزة الكل، وإلا كفى أن يجاوز المسافر خيمته فقط، وأما المسافر من محله خال عن الخيام والبناء، فإنه يقصر متى انفصل عن محله.
اقتداء المسافر بالمقيم:
إنّ من شُروط صلاة القصر أنّ لا يَقتدي المُسافر الذي يقصرُ الصلاةَ بُمقيمٍ أو مسافر يتم الصلاة فإذا فعل ذلك فقد توجب عليه الإتمام، سواءَ اقتدى به في الوقت ذاته أو بعد خروج الوقت، باتفاقِ ثلاثةٍ من الأئمة، وخالف الحنفية، وقالوا: أنه لا يجوز اقتداء المُسافر بالمقيم إلا في الوقت، وعليه الإتمام حينئذٍ، لأن فرضهُ يتغير عند ذلك من اثنين إلى أربع، أما إذا خرج الوقت فلا يجوز له الاقتداء بالمقيم؛ وذلك لأنه فرضه بعد خروج الوقت لا يتغير إلى أربع، لأنه استقر في ذمته ركعتين فقط، فلو اقتدى به بطلت صلاتهُ، لأن القعدة الأولى حينئذ في حَق المسافر المقتدي فرض، وهي في حَق إمامه المقيم بالمسافر فيصح مطلقاً في الوقت وبعده، ويصلي معه ركعتين، فإذا سلم قام المأموم وكمل صلاته كالمسبوق بركعتين.
لا يوجد هناك فرق في ذلك الأمرِ بين أن يُدرك مع الإمام كل الصلاةِ أو بعضاً منها حتى ولو أدرك التشهد الأخير، فإنه يتم باتفاق وخالف المالكية، فقد قال المالكية: إذا لم يُدرك المسافر مع الإمام المُقيم ركعة كاملة، فلا يتوجب عليه الإتمام، بل يقصر لأن المأمومية لا تتحقق إلا بإدراك ركعة كاملة مع الإمام، ولا يكره اقتداء المسافر بالمقيم إلا عند المالكية، فإنهم يقولون: يكره، إلا إذا كان الإمام أفضل أو به ميزة.