المعاملات المالية من الأمور المضبوطة في الفقه الإسلامي، لأهميتها الكبيرة في حياة الناس، وقد وضع المشرّعين قواعد فقهية تتعلّق بكل ما تشتمل عليه المعاملات المالية، ومنها قواعد تنظيم عقود التبرعات، والتي سيتم الحديث عنها في هذا المقال.
القواعد الفقهية المنظمة لعقود التبرعات:
القاعدة الأولى: الغرر والجهالة في التبرعات ليس كما في المعاوضات:
يُغتفر في عقود التبرعات من الغرر والجهالة ما لا يغتفر في عقود المعاوضات، فعقود التبرعات هي عقود تختص بالإحسان ومساعدة الآخرين، ولا تتأثر بما يقع فيها من غرر وجهالة، ولا يقع على المستفيد من التبرع أي ضرر، لأنّه غير مكلّف بدفع أي تعويضات.
ومما يدل على صحة هذه القاعدة أنّ التصرفات المرتبطة بعقود التبرع لا يُقصد منها زيادة المال وتنميته، وإذا دخلت على المحسَن إليه لا توقع به أي ضرر ولم يُبذل بذلك أي شيء، بعكس دخول المال بالغرر والجهالة الذي يؤدي إلى ضياع المال المبذول، وهنا اقتضى الشرع عدم اغتفار الجهالة.
القاعدة الثانية: لا يتم التبرّع إلّا بالقبض:
في مضمون هذه القاعدة لا يثبت التبرع ولا يُعتبر الملك فيه للمُتبرّع له إلّا بقبض التبرعات، كالأوقاف والصدقات والهبات والإعارات، ولا يثبت التبرع بمجرد العقد قبل أن يتم القبض، كما لا ضمان على المتبرع في عقد التبرعات، ويمكن قبول العقد اللفظي في التبرعات باعتباره عنصراً لبناء عقد تبرع ثابت عليه، فإذا حصل القبض تم العقد وثبت، ويُهدر العقد اللفظي وينتهي إذا لم يتم القبض.
وفي هذه القاعدة اختلاف بين الفقهاء بلزوم التبرعات بالقبض أم العقد، فراح الحنفية والشافعية إلى أنّها لا تصبح عقداً ثابتاً وملزماً إلّا بالقبض، أما المالكية فقالوا أنّ التبرع يلزم بالعقد، وكان خلاف عند الحنابلة إلّا أنّهم استقروا على أنّ التبرع لا يلزم إلّا بالقبض.
ويُستثنى من هذه القاعدة الوصية والتي تعرف بأنه هبة تُستحق بعد وفاة الموصي، وتتم الوصية بقبول الموصى له ويصبح المال في ملكه وتحت تصرّفه، ولا حاجة لقبض المال واستلامه في الوصية.
ويتفرّع من هذه القاعدة القبض في باب الهبة شرط للتملّك، والهبات لا تُعتبر إلّا بالقبض، كم لا يمكن تمليك الصلة إلّا بالقبض، وبطلان الهبة إذا مات أحد الطرفين قبل القبض، ولا بد من حيازة كل ملك ينتقل بغير العوض.
القاعدة الثالثة: لا تُسترد الهبة إلا ما وهب الوالد لولده:
وتعني هذه القاعدة أنّ الهبة لا يحل استردادها بعد القبض، ولا يجوز محاولة استرداد الهبة من الموهوب له بغير رضاه، ويثبت هذا الحكم سواء كانت الهبة مما يُثاب عليها الواهب أو لم يُثاب، وإن كان الموهوب له قريباً من رحم الواهب أو أجنبياً لا يقربه.
أمّا إذا كانت الهبة من الوالد لولده فهنا يجوز للواهب استرداد الهبة من ولده، وإن كان ذلك بغير رضا الابن، وينطبق هذا على الأم كما هو على الأب عند أكثر العلماء، وهذا متفق عليه في المذاهب الفقهية الأربعة، ولكن هناك موانع لا تُحلّ للوالد استرداد هبته من ابنه، ومنها خروج المال الموهوب من ملكية الولد الموهوب له، أو إذا تصّرف الولد الموهوب له في الهبة بعد قبضها، وكذلك موت أحد العاقدين، والزيادة المتصلة في المال الموهوب بعد قبضه.