أبصر من زرقاء اليمامة

اقرأ في هذا المقال


تُعرف الأمثال بأنها أداة للوصف ووسيلة إلى الحكمة، وبها يستدل على الرأي السديد ووجهة النظر، والفلسفة في الناس وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم وسلوكهم وصفات الآخرين، فهي أبقى من الشعر وأرق من الخطابة ولم يسر شىء سيرها، فالأمثال هي مرآة الشعوب وعصارة تقاليدها ورؤيتها في الحياة، فوراء كل مثل قصة، وتجربة أخرجته بالصورة التي وصل إلينا بها.

المرأة في الأمثال الشعبية:

تُعتبر الثقافة الشعبية جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة الشعوب، وتضم هذه الثقافة القصص والأمثال الشعبية، وكذلك الحكم والكثير من فنون التعبير المختلفة، وقد شهدت هذه الأيام وعياً واهتماماً متزايداً في أهمية الثقافة الشعبية، ويعود هذا لعدة أسباب أهمها إثراء الهوية الثقافية في الانفتاح على الآخر وفهم العلاقات التي تحيط بالمجتمع.
كما هو معروف أنّ الثقافة لها دور كبير في التأثير في أيّ مجتمع، وحالها كحال المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد كان للمرأة وجود في الأمثال الشعبية العربية برصيد لا يمكن حصره، وصورة المرأة في هذا المجال تكون على مستوى الرمزية والذاتية وارتباطها بالواقع الإنساني، ومن أهم ما تمتاز به المرأة في الأمثال الشعبية العربية، هو اتصافها بالتعدد والاختلاف، فهناك الكثير من الأمثال التي تعلي وترفع من شأن المرأة، وأمثال أخرى تقلل من مكانتها.

أصل مثل أبصر من زرقاء اليمامة – وفيم يضرب؟

أما أصل قصة مثل “أبصر من زرقاء اليمامة”، والتي راحت مثلاً في حدة البصر، فهو يعود إلى امرأة تُدعى “زرقاء”، وأصلها من اليمامة في اليمن، أما كلمة أبصر: فهي صيغة تفضيل من الفعل “بَصُر”، أي أكثر قدرة على النظر البعيد، ويُضرب هذا مثل “أبصر من زرقاء اليمامة”، فيمن كان حادّ البصر، فيُقال: أبصر من زرقَاء اليمامة.

أمّا زرقاء اليمامة فهي من الشخصيات النسائية العربية القديمة، وقد كانت متبخترة بدلالها مثل طاووس فرد ريشه فأسر القلوب والأبصار، مكتحلة بإثمد زاد عينيها بريقا وسحراً، وكالنسر الشامخ في أعالي السماء الحاد ببصره في الأجواء، وهنا نروي لكم قصة المرأة التي ضُرب بها المثل في حدة البصر فقالوا: أبصر من زرقاء اليمامة.

ما قصة مثل أبصر من زرقاء اليمامة؟

كما أسلفنا أن زرقاء اليمامة هي امرأة يُضرب بها المثل في حدّة البصر، فقد قالت العرب: “أبصر من زرقاء اليمامة”، وكان اسمها: “اليمامة بنت مرة”، وهي من ذرية “سام بن نوح”، حيث كانت اليمامة جديسية من نجد من أهل اليمامة، وتقع بلدة اليمامة في سهل يشبه الفضاء في فساحته واتساعه، وقد عُرفت زرقاء اليمامة بأنّها أبصر خلق الله عن بعد، حيث كانت تتمتع بقوة وحدّة في بصرها يجعلها تكشف وتبصر الشعرة البيضاء في اللبن، وقد قيل أنّها سميت بهذا الاسم نسبة إلى عينيها الزرقاوين.
ارتبط اسم زرقاء باسم بلدها “اليمامة” نسبة لها، وزرقاء امرأة من قبيلة جديس العربية القديمة، والذين استقروا باليمامة جنباً إلى جنب مع قبيلة طسم، وكانت تكتحل بإثمد أزرق فطبع على عينيها زرقة وجمالا ساحراً، واشتهرت زرقاء بحدة بصرها، حيث يروى أنها كانت تبصر لمسيرة ثلاثة أيام، وبحساب هذه المسافة في عصرنا الحاضر فستقارب ثمانين إلى مئة كيلومتر.

كان على رأس جارتهم قبيلة طسم حاكم ظالم، وقد وصل طغيانه إلى درجة أن كل عروس زُفّت لعريسها، كان ينفرد بها هذا الحاكم قبل زوجها، وهذا الأمر الذي لم تستطع قبيلة جديس عليه صبراً، فاتفقوا على أن يقتلوا الحاكم مع جميع الموالين له، وبعد أن نجحوا بقتل الطاغية وأعوانه، عاشوا جميعاً في سلم وأمان.

القصة لم تنتهِ بعد، ولأن الغدر والخيانة قائمان ومستمران إلى نهاية الحياة، فقد بقي أحد الموالين للحاكم الطاغية المقتول حيّاً، وأسرّ في نفسه المكر والخديعة، فقام باللجوء إلى إحدى القبائل، والتي لا يقل حاكمها بطشاً عن سلفه الطاغية المقتول، فعرض عليه أن يُغير على قبيلة جديس، وأغراه بحجم الهدايا والكنوز التي تقبع في ديارهم، وبعد حديث مطوّل تمكن من إقناعه، كما اقترح عليه أن يستتر جيشه بأغصان الشجر وأوراقها؛ لأن هنالك برج مراقبة من نوع خاص جدّاً، ألا وهي زرقاء اليمامة.

لما حلّت ساعة الفصل، توجه جيش كبير من قبيلة طسم إلى قبيلة جديس، وكان حاكمها طامعاً بالفتك، عازماً على القتل والنهب، وفي الجانب الآخر، وقفت زرقاء اليمامة فوق تلة كعادتها تجول ببصرها الحاد في ربوع أرض الله الواسعة، وفجأة لمحت من مسافة بعيدة عدداً كبيراً من الأشجار تتقدم، وكأن بها روحا تحركها، ففطنت بذكائها وحدسها للأمر، وعلمت بحجم المصيبة التي ستحل بهم، فأسرعت إلى قومها تحذرهم بقدوم العدو، وبأن يستعدوا له فيفاجئونه بغتة ويكون النصر حليفهم، وأنشدت تقول:

“خذوا خذوا حذركم يا قوم ينفعكم فليس ما قد أرى من أمر يحتقر

إني أرى شجرا من خلفها بشر لأمر اجتمع الأقوام والشّجـر”.

غير أن الرياح جرت عكس ما اشتهت سفن زرقاء للأسف الشديد، إذ ما كان من قومها إلا أن كذبوها وضحكوا من قولها، وقالوا إن رؤيتها للأشجار المتحركة ما هو إلا سراب تلاعب بعينيها– على حد قولهم –، فلما أتى الصباح اجتاح العدو منازل القبيلة والناس نيام في غفلتهم، فعاثوا فيهم قتلاً ونهباً، أما بطلة القصة زرقاء اليمامة فقد اقتلع الأعداء عينيها، وانتهت حياتها بهذا المصير المؤسف، لكن بالمقابل انتشر خبرها انتشار النار في الهشيم، وجرت على ألسنة الناس قصتها حتى ضُرب بها المثل في حدة البصر فقالوا: أبصر من زرقاء اليمامة.

زرقاء اليمامة في الذاكرة الشعرية:


لزرقاء اليمامة في الذاكرة الشعرية حضور واضح في الشعر العربي القديم، فحين تُضرب الأمثلة على حدّة البصر وقوته، يُشار إلى زرقاء اليمامة، ولعل من الأمثلة المشهورة على ذلك، لما امتدح الشاعر العباسي “المتنبي” نفسه، إذ راح يقول: إنه يبصر أكثر مما تبصره زرقاء اليمامة، وكان يقصد بهذا ما يستطيع أن يبصره من خلال خبرته وعلمه، وقد ذكر زرقاء اليمامة في شعره باسم”زرقاء جو” حين قال:

“وأبصَر من زرقاء جو لأنني متى نظرت عيناي ساواهما علمي”.
أما الشاعرميمون قيس المعروف بالأعشى، فقد ذكر قصة زرقاء اليمامة مع قومها في بضعة أبيات شعرية في معلقته، حيث قال:

“إذْ نظرتْ نظرةً ليست بكاذبة إذ يرفّعُ الآلُ رأسَ الكلب فارتفعا

قالت: أرى رجلاً في كفِّه كتِف ويخصِف النعلَ، لهفي أيّةً صنعا!


فكذّبوها بما قالت فصبّحهم ذو آلِ حسّانَ يُزْجي الموتَ والشِّرَعا


فاستنزلوا أهلَ جوّْ من منازلهم وهدّموا شاخصَ البنيان فاتَّضعا”.


شارك المقالة: