أدب الرحلة في العصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


تعتبر الرحلة عملاً مقترنًا بالبشر منذ وجود الخلق على الأرض، حيث كان في تنقل دائم للكشف عن كل شيء حديث، وتعددت الرحلة والغايات المنشودة منها والأهداف التي تقصد من ورائها، وفي هذا المقال سنوضح مفهوم الرحلة وأهميتها ودوافعها في العهد العباسي وأبرز الرحالة آنذاك.

مفهوم الرحلة لغة واصطلاحا

الرحلة لغةً: تعني الارتحال مأخوذة من الفعل الثلاثي رَحَلَ أي انتقل، والرحلة هي البقعة التي يذهب إليها المسافر، يقال شعب رُحّل أي كثيرو التنقل.

الرحلة اصطلاحًا: تدل على تنقل الفرد بمحض إرادته أو جماعات تجاوزوا من خلالها حدود المكان؛ لتحقيق أهداف ومقاصد معينة ونتيجة أسباب محددة، وهي تجربة يخوضها الإنسان وتمتزج فيها المتعة والمشقة.

كما تعد الرحلة سجل تدون من خلاله مادة معرفية تتناول جميع نواحي الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية وغيرها، كما وضح طبائع الأمم وثوابتها وفكرهم فهي بمثابة معاهد تثقيفية للبشر.

الرحلة ودوافعها

الرحلة هي تنقل دائم للوصول لهدف منشود يتحمل من أجله الرحالة المشقة والصعاب، فلا وجود لسفرٍ دون غاية أو مقصد ومن هذا المنطلق تنوعت دوافعها وفيما يلي أبرزها:

1- دوافع دينية: تتركز في الحج وزيارة المواقع المقدسة.

2- دوافع تعليمية: الغاية من هذه الرحلة الدراسة وطلب العلم.

3- دوافع سياسية: تتعلق هذه الرحلة بأمور تخص سياسة الحكم ومثال عليها الوفود والرحلات التجسسية وتسمى هذه أيضًا بالرحل الإدارية.

4- دوافع سياحية: الغاية من هذا النوع تكمن في رغبة التنقل للكشف عن كل ما هو حديث من البيئة والبشر.

5- دوافع اقتصادية: مثل التنقل من أجل تحسين الوضع المعيشي والتجارة.

6- دوافع صحية: حيث ينتقل الشخص من أجل العلاج والاستشفاء.

7- دوافع أخرى: قد تكون شخصية مثل تنمية موهبة وهواية معينة أو للترويح عن النفس، وتحدث ابن وكيع موجزًا ذلك:

تغرب عن الأوطان والتمس الغنى

وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

وتفريج هم واكتساب معيشة

وعلم وآداب وصحبة ماجد

فإن قيل في الأسفار هم وكربة

وتشتيت شمل وارتكاب الشدائد

فموت الفتى خير له من حياته

بدار هوانٍ واشٍ وحاسد

أهمية أدب الرحلات

1- كشف خفايا الأرض والاطلاع على رموزها ومعالمها.

2- تكمن أهميتها بأنها منبع خصب وغني بمختلف العلوم، حيث تدون من خلال الرحلات المظاهر التي تُرى وتُسمع.

3- الرحلات مصدر غني للمؤرخين والعلماء والباحثين حيث يجد فيها ما يريد من معلومات تتعلق بالدول المعنية وتتضمن العِبر والفائدة، كما غذوا الأدب المشرقي بكنز فكري وتاريخي وجغرافي شامل.

خصائص أدب الرحلات

1- يتضمن على بوتقة من الحكايات والمُجريات التي تساعد في نقل المشاهد للمُتلقي.

2- وصف البيئة ومراحل الرحلة التي خاضها الرَّحالة.

3- يركز على جمع الحقائق الجغرافية حول البلاد الحديثة.

4- نقل التاريخ والثقافات بنمط واقعي ومنطقي ويقص حكايات وأخبار عن شخصيات واقعية.

5- يصور العادات والثوابت المتعلقة بسكان البلاد التي ارتحل إليها.

الرحلة في العصر العباسي

شاعت الرحلة في هذا الزمن ونشطت بشكل واضح وانطلقت في خطاها لأبعد مدى متجاوزة بلاد المشرق إلى أماكن لم يسبق لها أن وصلتها من قبل مثل الصين وبلاد الروس وغيرها، وسمي هذا القرن زمن الرحلة الذهبي حيث برز في هذا الوقت رحالة علماء تنقلوا في البلاد مكبدين مشاق الترحل ليتعرفوا على الدول والأجناس المختلفة.

يُعد الزمن العباسي عصر تطور الحضارة المشرقية بشكل واضح ومن أبرز معالم تقدمها تطور الرحلة وما رافقها من تأليف مهمة مواكبة لركبِ الحضارة والتطور، فكانت هذه المؤلفات بمثابة نور يهتدي به دونها مجموعة مرموقة من الرحالة العلماء المشرقيين.

وتنوعت أساليب تدوينهم واختلفت منهاجهم، حيث نرى منهم من سلك في مؤلفاته ثوابت علمية لها قواعدها المعتمدة على النظر والتمعن الشخصي، والتوجه للاستفسار من أهل البلاد والتأكد من المعلومات التي يُحصّلها منهم ويقارنها بما لديه من معلومات في كتب التاريخ.

الرحالة العلماء في العصر العباسي

1- ابن فضلان: تولى منصب سفيرًا للحاكم المقتدر بالله حيث أرسله للصَّقالبة وكان له مكانة مرموقة بين المشرقيين، وتوجه للحديث عن أوضاع الأماكن ومظاهرها وتدوينها، حيث قام بنقل صور مناسبة وواضحة عنهم وعن عاداتهم وحضارتهم فنقل معلومات دقيقة منبثقة عن تجربة عميقة، كما تطرق لذكر مناطق لم يصلها أحد قبله فنال بذلك شهرة واسعة وذاع صيته وحاز على مكانة بارزة في تاريخ الرحلات.

عرف ابن فضلان بالعديد من الصفات الجيدة مثل الأمانة والصدق والحنكة والحكمة فهو مرآةٌ لبلاده، ولا بد أن يظهر بصورة لائقة أمام الجميع.

وكان لرحلته إلى بلاد الصقالبة دواعي عدة، حيث أن ملكهم أرسل إلى الخليفة يطلب العون والمساعدة المادية والحماية من خلال إرسال بوتقة من العلماء والفقهاء ليعلموهم تعاليم الإسلام وعقائده، وطلب منه بناء المساجد كي يتمكنوا من تأدية الفروض وإنشاء منبر للدعوة فيه إلى تأييد الخليفة، وطلب منه بناء حصن يحميه من غدر الملوك المخالفين وقال ابن فضلان عن سبب هذه الرحلة:

” لما وصل كتاب المش بن يلطوار ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر بالله يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقه في الدين، ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجدًا وينصب له منبرًا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له، فأجيب ما سأل من ذلك.”

2- أبو دلف: عرف عنه أنه من رواد الأدب المشهورين واشتهر بخفة ظله تميز بكثرة تنقله وتجواله عبر البلاد ويقول عن الرحلة:

وقد صارت بلاد الل

ه في ظعني وفي حلي

تغايرن بلبثي أو

تحاسدن على رحيلي

فما انزلتها إلا

على أنس من الأهل

عرف الرحالة من خلال تنقله أخبار المدن وأسرارها وكان معروفًا في المناطق التي ينزل بها، كما كان له علاقات واتصالات بالحكام وولاة الأمر والشخصيات البارزة في البلاد.

وكان أبو دلف كثير التجوال في البلاد مما ساعدَه على الإحاطة بخصائص الأقطار التي نزل بها فتعرف على أصناف النباتات وأنواع الحيوانات ومختلف الصناعات وما تفرد به أهل البلاد.

ومن أهم الرحل التي قام بها أبو دلف تلك التي توجه فيها إلى الهند، وكذلك الصين وقدم من خلالها معلومات مهمة وكثيرة عن تلك البلاد، والهدف الرئيسي منها الاحتكاك بين الدول وتقوية العلاقات والروابط.

وفي النهاية نستنتج إن أدب الرحلة قد تقدم بصورة واضحة في الزمن العباسي وانطلقت لأبعد مدى متجاوزة بلاد المسلمين إلى أماكن لم يسبق الوصول إليها مثل الصين والهند، ولقد برز في ذاك الوقت بوتقة من العلماء الذين جابوا البلاد مكبدين عناء السفر ليعرفوا على الدول والأجناس وجمع المعلومات المتعلقة بهم وحضارتهم ونذكر منهم أبو دلف وابن فضلان وغيرهم الكثير.


شارك المقالة: