أدوات هورسل في علم الظواهر

اقرأ في هذا المقال


علم الظواهر هو مجال واسع ومنهج للبحث في الفلسفة، طوره إلى حد كبير الفلاسفة الألمان إدموند هوسرل ومارتن هايدجر، والذي يستند إلى فرضية أنّ الواقع يتكون من أشياء وأحداث (ظواهر) كما يتم تصورها أو فهمها في الوعي البشري، وليس أي شيء مستقل عن الوعي البشري.

الاختزال:

الطريقة الأساسية لجميع الاستقصاءات الظاهراتية كما طورها هوسرل بنفسه والتي عمل عليها طوال حياته كلها هي (الاختزال) بحيث يجب وضع وجود العالم بين قوسين ليس لأنّ الفيلسوف يجب أن يشك فيه بل فقط لأن هذا العالم الحالي ليس موضوع الفينومينولوجيا ذاته، بل أنّ موضوعها هو بالأحرى الطريقة التي تظهر بها معرفة العالم.

خطوات الاختزال:

  1. الخطوة الأولى: وتتمثل هذه الخطوة للاختزال في الاختزال الفينومينولوجي، والذي من خلاله يتم تحويل كل ما يتم تقديمه إلى ظاهرة بمعنى ما هو معروف في الوعي، وعن طريق هذا النوع من المعرفة الذي يجب أن يؤخذ في إنّ المعنى الواسع الذي يشمل كل نمط من أشكال الوعي مثل الحدس والتذكر والخيال والحكم هو هنا في غاية الأهمية.
    هناك عدة أسباب وراء منح هوسرل موقعًا متميزًا للحدس من بينها حقيقة أنّ الحدس هو ذلك الفعل الذي يمسك فيه الشخص شيئًا ما فورًا في حضوره الجسدي وأيضًا أنّه فعل معطى أساسًا يجب أن يؤسس عليه كل الباقي، وعلاوة على ذلك يجب فهم تأكيد هوسرل على الحدس على أنّه تفنيد لأي نهج تأملي للفلسفة. هنا يعكس هذا الاختزال أو بمعنى يعيد الإنعكاس اتجاه الإنسان للبصر من التوجه المباشر نحو الأشياء إلى التوجه نحو الوعي.
  2. الخطوة الثانية: هنا يمكن العثور عليها في الاختزال الإستثنائي، بحيث لا يكفي الحصول على الوعي، بل على العكس من ذلك يجب جعل أفعال الوعي المختلفة متاحة بطريقة يمكن من خلالها استيعاب جوهرها وهياكلها العالمية وغير القابلة للتغيير.
    في الاختزال الاستدلالي يجب على المرء أن يتخلى عن كل ما هو واقعي ويحدث فقط بهذه الطريقة أو تلك وسيلة لفهم الجوهر بما يسمى Wesensschau، أي حدس الجواهر والبنى الأساسية، وهذا ليس نوعًا غامضًا من الحدس، وبدلاً من ذلك يشكل المرء تعددًا من الاختلافات لما يُعطى ومع الحفاظ على التعددية يركز المرء الانتباه على ما لم يتغير في التعددية، أي أنّ الجوهر هو ذلك الشيء المتطابق الذي يحافظ على نفسه باستمرار أثناء عملية التباين، لذلك أطلق عليها هوسرل اسم الثابت. حتى هذه النقطة ظلت مناقشة الاختزال ضمن نطاق علم النفس وإن كان علم نفس جديد – أي الظواهر – علم النفس.
  3. الخطوة الثالثة: يجب أن تكتمل الخطوة الثانية الآن بثالث وتسمى بالتخفيض التجاوزي، وهو يتألف من عودة إلى إنجازات ذلك الوعي الذي أطلق عليه هوسرل تبعًا لكانط الوعي التجاوزي على الرغم من أنّه تصور ذلك على طريقته الخاصة.
    إن الحدث الأساسي الذي يحدث في هذا الوعي هو خلق وعي الوقت من خلال أفعال الحماية (المستقبل) والاحتفاظ (الماضي)، وهو شيء مثل دستور الذات، وكان القيام بالظواهر بالنسبة لهوسرل بمثابة العودة إلى الأنا المتعالية كأساس للتأسيس والتكوين (أو صنع) كل المعاني (الشين الألماني)، فقط عندما يصل الشخص إلى هذه الأرضية يمكنه تحقيق البصيرة التي تجعل سلوكه شفافًا بالكامل ويجعله يفهم كيف يأتي المعنى، وكيف يعتمد المعنى على المعنى مثل الطبقات في عملية الترسيب.
    عمل هوسرل على توضيح الخاتزال التجاوزي حتى نهاية حياته، وكان التطور الإضافي للاختزال التجاوزي بالتحديد هو الذي أدى إلى انقسام الحركة الظاهراتية وإلى تكوين مدرسة رفضت الانخراط في هذا النوع من نظام المشاكل.

مفاهيم أساسية:


في محاولة للتعبير عن الغرض الذي تتيحه هذه الطريقة الوصول، كتب هوسرل ما يلي:

“في كل التجارب النفسية البحتة (في إدراك شيء ما والحكم على شيء ما والرغبة في شيء ما والاستمتاع بشيء ما والأمل في شيء ما) ويوجد بطبيعته موجه نحو…. التجارب مقصودة، فلا يتم ربط هذا التوجه نحو التجربة فقط عن طريق مجرد إضافة، وأحيانًا كرد فعل عرضي كما لو كانت التجارب يمكن أن تكون كما هي بدون العلاقة المقصودة، وبقصد التجارب هناك تعلن نفسها أو بالأحرى عن البنية الأساسية للنفسية البحتة.”


يجب على الباحث في علم الظواهر أن يفحص الأشكال المختلفة للقصد في موقف انعكاسي، لأنّه من خلال القصد المقابل تحديدًا يصبح كل مجال من الأشياء في متناوله، واتخذ هوسرل الكيانات الرياضية كنقطة انطلاق له وفحص الهياكل المنطقية لاحقًا من أجل الوصول في النهاية إلى البصيرة القائلة بوجوب استيعاب كل كائن في علاقته بالوعي، لأنّ كل مسند يصبح متاحًا للشخص فقط بقدر ما يكون له معنى بالنسبة له.

ومن هذا الموقف تتطور الأنطولوجيات الإقليمية أو عوالم الوجود وعلى سبيل المثال تلك التي تتعامل مع منطقة (الطبيعة)، منطقة (النفسي)، أو منطقة (الروح)، وعلاوة على ذلك ميّز هوسرل الأنطولوجيا الرسمية من مثل منطقة المنطقي من الأنطولوجيا المادية.

ومن أجل التمكن من التحقيق في الأنطولوجيا الإقليمية من الضروري أولاً اكتشاف وفحص الفعل التأسيسي الذي يتم من خلاله تشكيل الحقائق في هذا المجال، فبالنسبة لهوسرل لا يعني الدستور إنشاء أو تلفيق شيء أو شيء بواسطة الذات بل يعني الدستور التأسيسي لمعناه، وهناك معنى فقط للوعي، بحيث أصبح كل تكوين مؤسس للمعنى ممكنًا من خلال الوعي التجاوزي، وفي حديثه عن هذه الفكرة المتعالية كتب هوسرل:

“إنه الدافع للتساؤل عن المصدر الأخير لجميع إنجازات المعرفة، والتفكير الذي ينعكس فيه العليم على نفسه وحياته المعرفية، حيث تحدث جميع التركيبات العلمية التي لها صلاحية بالنسبة له بشكل غائي، وكاكتساب دائم يتم الاحتفاظ بها وتصبح متاحة له مجانًا.


في عالم مثل هذه المشاكل المتعالية من الضروري فحص كيف أنّ جميع المقولات التي يفهم المرء من خلالها الكائنات العادية أو الكيانات الشكلية البحتة تنشأ من أنماط محددة من الوعي، بينما من وجهة نظر هوسرل يجب أن يُنظر إلى الموقتة على أنّها نوع من التكوين البدائي للوعي المتسامي نفسه.

وبهذه الطريقة لا تضع الفينومينولوجيا نفسها خارج العلوم بل تحاول أن تجعل ما يحدث في مختلف العلوم مفهومًا وبالتالي تحديد موضوعات الافتراضات المسبقة التي لا جدال فيها في العلوم.

في آخر إصداراته Die Krisis der europäischen Wissenschaften und die) transzendentale Phänomenologie: Eine Einleitung in die phänomenologische Philosophie – أزمة العلوم الأوروبية والظواهر المتسامية)، وصل هوسرل إلى عالم الحياة – العالم الذي تم تشكيله ضمن التجربة المباشرة لكل شخص- من خلال التساؤل مرة أخرى عن الأسس التي تفترضها العلوم مسبقًا.

في Die Krisis حلل الأزمة الأوروبية للثقافة والفلسفة، والتي وجدت تعبيرها المباشر في التناقض بين النجاحات العظيمة للعلوم الطبيعية وفشل العلوم الإنسانية، وفي العصر الحديث أصبحت المعرفة العلمية مجزأة إلى معرفة موضوعية فيزيائية ومعرفة متعالية.

وحتى وقت قريب لم يكن من الممكن التغلب على هذا الانقسام بل أدى بالأحرى إلى محاولة تطوير العلوم الإنسانية وفقًا للإجراءات المستخدمة في علوم الطبيعة الدقيقة (المذهب الطبيعي) وهي محاولة محكوم عليها بالفشل، بينما في مقابل هذه المحاولة أراد هوسرل أن يُظهر أنّه في النهج الجديد يجب على المرء أن يفكر في أنشطة العلماء.

نظرًا لأنّ العالم المعطى على الفور، فإنّ هذا العالم الذاتي فقط، وتم نسيانه في التخصيص العلمي، فقد تم نسيان الموضوع المنجز أيضًا ولم يتم تحديد موضوع العالم نفسه، وقد أوضح هوسرل هذه النقطة باستخدام مثال جاليليو وحسابه للعالم.

الحقيقة المميزة لعالم الحياة ليست بأي حال من الأحوال شكلاً أدنى من الحقيقة عند مقارنتها بالحقيقة العلمية الدقيقة، ولكنّها بالأحرى حقيقة مفترضة مسبقًا في جميع الأبحاث العلمية، لهذا السبب ادعى هوسرل أنّه يجب تطوير علم الوجود لعالم الحياة، أي تحليل منهجي للإنجازات التأسيسية التي ينتج عنها عالم الحياة، وعالم الحياة الذي هو بدوره أساس الجميع أي الدساتير العلمية للمعنى، هنا يتمثل التغيير المحفز الذي حدث في حقيقة أنّ الحقيقة لم تعد تقاس بعد معيار التحديد الدقيق، لأنّ ما هو حاسم ليس الدقة بل الدور الذي يلعبه الفعل التأسيسي.

في هذا الصدد أصبحت التاريخية أيضًا بشكل مفاجئ ذات صلة بهوسرل، حيث بدأ يفكر في ظهور الفلسفة بين الإغريق وأهميتها كنمط جديد من المعرفة العلمية الموجهة نحو اللانهاية، وفسر فلسفة رينيه ديكارت الذي غالبًا ما يطلق عليه أبو الفلسفة الحديثة على أنّها النقطة التي عندها الإنقسام إلى اتجاهين بحثيين – الموضوعية المادية والذاتية المتعالية -.

ورأى أنّ علم الظواهر يجب أن يتغلب على هذا الانقسام، وبالتالي يساعد البشرية على العيش وفقًا لمتطلبات العقل، وفي ضوء حقيقة أنّ العقل هو السمة النموذجية للإنسان يجب أن تجد البشرية نفسها مرة أخرى من خلال الفينومينولوجيا.


شارك المقالة: