نشأة مكتبة بيت الحكمة
كانت بداية ازدهار الحضارة الإسلامية في العصر العباسي، فازدهرت العلوم والآداب، واهتم الخلفاء بالعلم والمعرفة، وكان من بين هؤلاء الخلفاء أبو جعفر المنصور، الذي تُرجمت في عهده كتب الهندسة، والطب، والفلك، والآداب، وكانت الكُتب تُحفظ في قصر الخلافة في بغداد، حتى جاء هارون الرَّشيد وأخرج الكُتب والمخطوطات القيّمة التي تمَّ تخزينها في قصر الخلافة، ووضعها في دار فاخرة أسماها بخزانة الحكمة تقديرًا لها. وكان هارون الرشيد مُغرمًا بالمعرفة والعلم، لدرجة أنَّه كان يقبل الكتب جزيةً، بدل عن تقديمها على شكل أموال، حتى أنَّ عدد الكُتب في عهده بلغت المليون كتاب.
وبعدها جاء عهد الخليفة المأمون، الذي كان يحُضُّ على قراءة الكتب ويشجِّع القُرّاء على البحث والدراسة والترجمة ، وأصبح القارئ يحظى بمكانة رفيعة، وأغدق عليهم الأموال والعطايا، فتسابق الناس الى العلم والمعرفة، ، ولم يكتفي بذلك بل كان يطلب من ملوك البلاد الأُخرى الكتب والمُؤلَّفات، وكان يُهددهم بالحرب إذا لم يستجيبوا لمطلبه، فقد طلب من الإمبرطور البيزنطي أن يُرسل له الكتب القديمة التي أهملها الروم، فلمّا تقاعس هدده بالحرب، فرضخ الإمبرطور وسمح لبعثة عربية بالدخول إلى بلاده وانتقاء بعض الكتب، كما وطلب من حاكم صقليَّة أن يُرسل إليه مكتبة صقلية الشهيرة بمقتنياتها العلمية والفلسفية، فاستجاب له، فنمت وتطوَّرت خزانة الحكمة وتحوَّلت إلى اكاديمية وهذا كان سببًا في تغيير اسمها لتصبح مكتبة بيت الحكمة.
نشطت حركة الترجمة في بيت الحكمة، وتُرجمت الكتب من شتَّى اللغات، الفارسية، والآرامية، واليونانية، والقبطية، والسريانية، والعبرية، والسنسكريتية وهي اللغة التي كُتبت فيها مخطوطات الرياضيات والفلك الهندية القديمة، وكان المقابل الذي يتقاضاه المُترجم مُحفِّزًا للغاية، إذ كان المأمون يدفع مقابل ترجمة كُل كتاب وزنه ذهباً.
وكان معظم المُترجمين من السريان الذين يعرفون اللغتين العربية واليونانية، فكانوا كحلقة وصل بين الثقافتين، كما ونشطت حركة التأليف وسارت مع حركة الترجمة جنبًا إلى جنب، وشجّع الخليفة المأمون التأليف عن طريق المنح السخيَّة، فازدادت الكُتب في مختلف العلوم والمعارف وكتب التراجم والسير والتراث الإسلامي، فلم تشهد بغداد أعدادًا مشابهة لحجم الكُتب التي كانت موجودة، إذ قيل أنَّ المأمون قد استخدم مئة جمل لحمل الكُتب والمخطوطات من خراسان لبغداد.
أقسام مكتبة بيت الحكمة
قُسِّمت المكتبة حسب الموضوع، وبعد ذلك حسب اللغة، على سبيل المثال ركن الرياضيات، فيه قسم اللغة اليونانية، وقسم للعربيَّة وهكذا…
وكان يُدير المكتبة خازن وهو المسؤول عن بقية العاملين، وكانت تحتوي على ثلاث حُجرات الكُبرى منها لحفظ المخطوطات وعرضها وللمطالعة، والثانية لأعمال النسخ والتجليد، وخزن الكُتب والمواد المكتبيَّة الأخرى، والثالثة تُستعمل كمخازن للمكتبة.
وأقام الخليفة المأمون أيضًا جناحًا مُلحقًا، وكان الجناح أشبه بفندق فيه مكان للإقامة، وكانت إقامتهم وطعامهم على نفقته الخاصَّة، خاصَّةً أولئك الذين كان يستدعيهم من شتَّى البلاد للدراسة والبحث وتأليف الكُتب.
وكان في بيت الحكمة صالة كبيرة، يقصدها المأمون كمجلس في كل يوم جمعة، يجتمع فيها مع أهل العلم، وتحصل فيها مُناظرات أدبيَّة وفكريَّة.
بنى الخليف المأمون في بيت الحكمة، مركزًا فلكيًا سُمي “المرصد الفلكي” يُشرف عليه عددًا من الفلكيين المحترفين.
أعضاء مكتبة بيت الحكمة
1- بنو موسى: كان أحمد، ومحمد، والحسن، أبناء موسى بن شاكر أعضاء في بيت الحكمة، وقد كانوا علماء رياضيات وترجموا مقالات علمية عن اللغة الإغريقية، وعلاوة على ذلك اخترعوا أجهزة ميكانيكيَّة عجيبة، تعد بشائر الروبوتات الحاليَّة ومن أشهر مؤلَّفاتهم كتاب (الحيل)، حيث كان يُسمَّى علم الميكانيك بعلم الحيل.
2- الخوارزمي: محمد بن موسى أبو علم الجبُر، كما وترجم الخوارزمي كتاب السَّند والهند الكبير وهو عبارة عن لوائح فلكيَّة ظلَّت مستعملة حتى عصره.
3- الكندي: أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الصباح، وهو مُخترع علم فك الشِّيفرة، ومؤلِّف النظريَّة الموسيقيَّة.
4- حنين بن إسحاق العبادي: الطبيب المُترجم والذي كان يُتقن السريانية، واليونانية، وابنه إسحاق بن حنين.
5- الجاحظ : الأديب العالم صاحب كتاب الحيوان.
6- يحيى بن ماساويه: طبيب، وعالم صيدلة، ترجم الكثير من الكُتب الطّبية من الأغريقية.
7- البتّاني: الذي ألف كتاب “الزيج الصَّاي” في الفلك.
8- الكندي: وهو طبيب، وفيلسوف، وجغرافي، كيمائي منطقي، وقد اختاره الخليفة المأمون ليدرس مؤلَّفات أرسطو، وغيره من الأطباء.
نهاية مكتبة بيت الحكمة السوداء
تُوفي الخليفة المأمون في عام 833م، وفي عهده ازدهرت المكتبة، وانتشر العلم وعمّ الرَّخاء، ولكنَّ وفاته كان لها الأثر السيء على المكتبة، فلا أحد سيُعطي المكتبة الجُهد والاهتمام الذي كان يعطيه الخليفة المأمون، فقد تولَّى بعده الخليفة المُعتصم الذي فاجأ الناس بقرار نقل مركز الخلافة من بغداد إلى سامرّاء و(هي المدينة الجديدة التي أمر ببنائها)، فكان الخوف من سقوط المكتبة، ولكنَّ الأمر لم يحصل بسرعة، لأنَّ الدَّعائم التي بناها الخليفة المأمون كانت قويّة، والعلماء، والمفكرين، والمدرسين الذين أوصاهم بالحفاظ على المكتبة، حموا المكتبة وبقيت تُقدِّم خدمات ولكن ليس كالسَّابق، ومع تقدم الوقت بدأت الفتن تنتشر، وتحوُّل اهتمام الناس إلى السياسة، وبدأت المكتبة تُهمل شيء فشيئًا.
وفي عام 1258م جاء الموت الأسود للمكتبة، عندما اقتحم المغول بغداد، حيث جاء الأمر من هولاكو بإتلاف المكتبة، ورمي الكُتب في نهري دجلة والفرات حتى أصبح لونهما أسود.