اسقِ أخاك النمريّ

اقرأ في هذا المقال


كعْب بن مامة الإيادي الذي ذهب قوله مثلًأ في الإيثار والتضحية، هو أبو دؤاد كعب بن مامة بن عمرو بن ثعلبة الإيادي، نسبة إلى قبيلة إياد، وقيل: “مامة” اسم أبيه واسم جده عمرو، وقيل: مامة اسم أمه، واسم أبيه عمرو، وكعب سيد جاهليٌ كريم جواد، ضربت العرب به المثل في الجود، وضربوا به المثل في حسن الجوار، فقالوا: «أجود من كعب بن مامة» و«جار كجار أبي دؤاد»، وكعب بن مامة هو صاحب القصة المشهورة في الإيثار: “اسق أخاك النمري”، حيث جاد بنفسه وآثر رفيقه بالماء حتى هلك عطشًا.

قصة مقولة “اسقِ أخاك النمريّ”:

أما قصة هذه المقولة أن كعبًا قد سافر مع نفر في يوم حرّ شديد، فأعوزهم الماء إلاّ شيئاً يسيراً يقتسمونه، وأخذوا حين يشربون يقتسمون الماء بينهم بالحصى؛ وذلك أن يُطرح في الإناء حصاة ثم يُصب فيه من الماء بقدر ما يغمر الحصاة، فيشرب كل واحد منهم قدر ما يشرب الآخر، وكان مع كعب رجل من النمر بن قاسط، فلما بلغت النوبة كعبًا في الشرب نظر إليه النمري، فقال كعب للساقي: “اسق أخاك النمري”، ففعل ذلك مرارًا إلى أن نفد الماء، فسقط كعب ميتًا من العطش، فهذا المثل يضرب لكل من طلب الشيء مرارًا.
وفي رواية أخرى أن النفر كانوا قد قسموا الماء فنظر إلى كعب رجل من النمر بن قاسط، فلما رآه ينظر إليه كان قد آثره بمئة رجل فرحل القوم ولا قوّة لكعب على الرحيل، فقيل له: “يا كعب هذا الماء أمامك ترد إليه عما قليل”، ولكن كعبًا عجز عن الجواب وحاول رفاقه أن يستنطقوه فلم يستطيعوا؛ لأن قواه قد خارت وعزيمته قد اضمحلّت وأخذ يلفظ أنفاسه الأخيرة وأيسوا منه فخيموا عليه بثوب يمنعه من السبع أن يأكله، ومات غير أنه أصبح بإيثاره مضرب الأمثال، فقال أبوه مامة بن عمرو يرثيه:

أوفى على الماء كعـب ثم قيل له       رِدْ كعب إنك وراد فما وردا

ما كان من سوقة أسقى على ظمأ        خمرًا بماء إذ ناجودها بردا

من ابن مامة كعب ثــم عَيّ به         ذوو الحوادث إلا حرة وقدا

لقد ذكر الفرزدق ذلك، وقد كان مسافرًا في ركب، فشحّ عندهم الماء، فتصافنوه، وسأله رجل من بني العنبر بن عمرو بن غنم أن يؤثره بحظه من الماء، ففعل الفرزدق ذلك، ثم سأله أن يؤثره ثانية فأبى، وقال في ذلك:

ولما تصافنا الإداوة أجهشـــت        إليّ غضون العنبري الجراضـم

فجاء بجلمود له مثل رأسِـــه       ليسقى عليه الماء بين الصرائـم

فآثرته لما رأيت الذي بــــه        على القوم أخشى لاحقات اللوائم

وكنّا كأصحاب ابن مامة إذ سقى        أخا النمر العطشان يوم الضجاعم

إذا قال كعب: هل رويت ابن قاسط؟       يقول  له: زدني  بلال  الحلاقم!

فكنت ككعب غيــــر أن منيتي         تأخر عني نزعها بالأخـــارم.

قيل إن أجواد العرب ثلاثة: “كعب بن مامة وحاتم الطائي وهرم بن سنان”، وكانت قبيلة إياد تزهو على العرب، فتقول: “فينا أجود الناس كعب بن مامة”، وقد رُوي عن عبد الملك بن مروان يومًا أنه قال: “هل تعرفون حيًّا فيهم أخطب الناس وأجود الناس وأشعر الناس؟ هم إياد، لأن قس بن ساعدة منهم وكعب بن مامة منهم وأبا دؤاد الإيادي منهم”.

رُوي عن كعب بن مامة أنه كان إذا نزل أحدهم في جواره قام بإصلاح حاله وأهله، وكما أنه يحميه ممن يقصده، وإن كان هلك له شيء أو فقد مالًل عوضه، وقد فعل ذلك بأبي دؤاد الإيادي حين جاوره؛ حتى صارت العرب إذا حمدت جارًا قالوا: “كجار أبي دؤاد”، ومن ذلك قول قيس بن زهير العبسي:

أطوّف ما أطوّف ثم آوي          إلى جار كجار أبي دؤاد.


أكثر الشعراء من ذكر كعب بن مامة، ووصفوه في شعرهم، وقد تداولوا اسمه وتناقلوه حين كانوا يتكلمون عن الجود، فهو في هذا المجال مضربًا للمثل، والجدير بالذكر أن كعبًا بن مامة هذا يعتبره البعض أجود العرب على الإطلاق، وقد قدموه على حاتم الطائي، بزعم أن حاتمًا كان يجود بماله بينما كعب كان قد جاد بماله وبنفسه.

لابد من ذكر أن كلا من كعب بن مامة الإيادي وحاتم الطائي أسرتهما قبيلة عنزة، ويقال في الأمثال: ” أكرم من أسيري عنزة”، وهذا المثل ذكره الميداني في مجمع الأمثال، وذكر عن المثل “هكذا فصدي”، أن أول من تكلم به كعب بن مامة، وذلك أنه كان أسيرًا في عنزة فأمرته أم منزلة أن يفصد لها ناقة فنحرها، فلامته على نحره إياها، فقال: هكذا فصدي، يريد أنه لا يصنع إلا ما تصنع الكرام.


شارك المقالة: