اقرأ في هذا المقال
- الأساس الفلسفي التجريبي لفلسفة بنثام
- الأساس الفلسفي لنظرية بنثام في اللغة
- الأساس الفلسفي لبنثام في المبدأ الأخلاقي
- النقاد والمعلقون على فلسفة بنثام
تمهيديًا لتحليل الأنظمة القانونية القائمة وبناء المقولة النفعية في عام 1776، بدأ بينثام في صياغة المبادئ التحضيرية (لفقه الرقابة أو ما يجب أن يكون عليه القانون) في هذه المخطوطات التي تزيد عن 600 صفحة والتي نُشرت الآن بشكل رسمي في الأعمال المجمعة، وقدّم سلسلة من الاستقصاءات حول التعريفات والتمييزات والبديهيات والأقوال المأثورة التي تهدف إلى أن تكون أدوات لإزالة الغموض عن خيالات القانون الإنجليزي والممارسة القانونية وهي روايات وجد تكرارها بشكل غير نقدي في تعليقات بلاكستون.
الأساس الفلسفي التجريبي لفلسفة بنثام:
في هذه الكتابات وغيرها من الكتابات المبكرة نرى بنثام يسعى جاهداً لمحاكاة التقدم العظيم الذي أحرز في العلوم الفيزيائية في العالم الأخلاقي، وفي هذه العملية تحالف بوعي مع العناصر الأكثر تقدمية في عصر التنوير، وأوضح التأثيرات الفكرية التي شكلت فكره ولا سيما بيكون ولوك وهيوم والفلاسفة الفرنسيون.
تأثر بنثام بتجريبية بيكون ولوك حيث رأى أنّ كل المعرفة مستمدة من الإحساس، أي العقل ليس لديه مادة للعمل معها بخلاف تلك التي تحصل عليها الحواس، وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر شددت الجمعية الملكية على دور التجربة ونظرية المعرفة التجريبية عمومًا في تطوير العلوم الطبيعية، أعجب بنثام بشكل مناسب بالتقدم المحرز في قسم المعرفة هذا، فقد نقل إلى العلوم الأخلاقية المبدأ الأساسي الذي لا يمكن للناس أن يعرفوا إلّا بأي معنى معين أو علمي لهذا المصطلح وما يمكن ملاحظته والتحقق منه.
وجادل بأنّ العلوم القانونية يجب أن تُبنى على نفس الأساس الثابت للإحساس والخبرة مثل الطب معلنًا، ماهية الطبيب بالنسبة للجسم الطبيعي والمشرع للسياسة، أي التشريع هو فن الطب الذي يمارس على مقياس كبير.
كان هذا هو جوهر الطريقة التجريبية في بنثام، ولقد كان نهجًا مرتبطًا ضمنيًا في ذهنه بأنطولوجيا مادية ونظرية تمثيلية للمعنى، ولقد رفض جميع أشكال المثالية في الفلسفة وأصر على أنّ كل مادة قابلة للقياس الكمي من حيث المبدأ من الناحية الرياضية، وهذا يمتد إلى الآلام والملذات التي نختبرها، فالظواهر النهائية التي يتعرض لها كل نشاط بشري والمفاهيم الاجتماعية مثل الحقوق والالتزام والواجب يمكن تخفيضها وشرحها.
الأساس الفلسفي لنظرية بنثام في اللغة:
في نظرية بنثام للغة ليس للمصطلحات العامة حقيقة مقابلة، بمعنى يجب أن تمثل الكلمات والأفكار والافتراضات أو تصف كيانات حقيقية والتي قد تكون إما تصورات أو مواد أو أنّها كيانات وهمية، وكان هذا تمييزًا تعلمه بنثام من دالمبرت، على الرغم من أنّه حوله إلى هدف وجودي أكثر تطرفاً، فلقد عرّف الكيان الوهمي على أنّه: “مجرد لا شيء، ولا يمكن أن يكون الافتراض الذي من خلاله تُنسب أي خاصية إليه كيانًا حقيقيًا بحد ذاته، وبالتالي لا يمكن أن يكون مفيدًا”.
إذا كانت هناك أي حقيقة مرتبطة بكيان وهمي لا يمكن أن تنتمي إليه في أي صفة أخرى غير تلك الخاصة بالمكافئ المقصود والمفترض، وبعض الافتراضات لموضوعها كيان حقيقي، وكانت تقنية إعادة صياغة النص هي الأداة الرئيسية التي استخدمها بنثام لإزالة الغموض عن الكيانات الوهمية.
بعض الكيانات الوهمية ضرورية للخطاب البشري، ولكن لا يمكن الكشف عن معناها إلّا من خلال ارتباطها بالكيانات الحقيقية، وإذا أثبت الكيان الوهمي أنّه منيع لهذه التقنية المعاد صياغتها فإنّه يتضح أنّه تجريد لا معنى له ولا علاقة له بالواقع الذي يمكن إثباته، والمصطلحات الأخلاقية مثل الحق و الالتزام على سبيل المثال يمكن أن تكون ذات معنى فقط من حيث الآلام والملذات الملموسة التي يمر بها أفراد معينون.
من ناحية أخرى فإنّ الافتراضات اللاهوتية التي لا علاقة لها بالواقع المادي لا تتعامل مع حقائق التجربة العادية بل مع واقع مفترض يتجاوز العالم المادي، وكما يجب ألّا يكون للغة الرأي مكان في خطاب العلوم الفيزيائية، لذا فإنّ الافتراضات اللاهوتية غير القابلة للاختبار والتي لا يمكن التحقق منها ليس لها مكان في العلوم الأخلاقية.
الأساس الفلسفي لبنثام في المبدأ الأخلاقي:
في عمل مبادئ الأخلاق والتشريع وجّه بنثام هذا التحليل ضد مجموعة من الافتراضات الأخلاقية التي سعى إلى إزالتها كبدائل متنافسة لمبدأ المنفعة مثل الحس الأخلاقي والفطرة السليمة وقانون العقل والعدالة الطبيعية، ويتم استبعادهم جميعًا على أساس أنّهم مجرد عبارات فارغة لا تعبر عن أي شيء يتجاوز شعور الشخص الذي يدافع عنها.
لا تمثل هذه العبارات حقيقة يمكن التحقق منها ولا يمكن اعتبارها مفيدة، وفي الواقع كانوا بالتأكيد خبيرين وكانوا بمثابة ذريعة وغذاء للاستبداد وإن لم يكن عمليًا، فهو استبداد ولكن في التصرف، وبالمقارنة فإنّ المنفعة كانت مبدأً متجذرًا في الحقائق التجريبية والتي يمكن التحقق منها للتجربة المحسوسة للآلام والملذات.
النقاد والمعلقون على فلسفة بنثام:
بمجرد أن بدأت أفكار بنثام تترسخ في أوائل القرن التاسع عشر لم يكن من الصعب العثور على النقاد، ففي كتابه مبادئ السياسة المطبقة على جميع الحكومات (1810) تساءل بنجامين كونستانت الذي أعجب بأصالة بنثام وأثنى على مساهماته في الاقتصاد السياسي وقانون العقوبات، وفي المقابل تساءل عن غموض مفهوم المنفعة الذي اعتقد أنّه عرضة للعديد من التعريفات المختلفة وحاملًا الخطر كمبدأ من مبادئ السياسة، فضل كونستانت وصفات القانون الطبيعي كأساس فلسفي للحكومة.
وليم هازليت الذي كان لفترة من الوقت مستأجراً لدى بنثام، سخر منه باعتباره مذيعًا موقرًا في هدوء خليته حيث اختزل القانون إلى نظام وعقل الإنسان إلى آلة، منفصلاً عن حياة الروح والخيال والعاطفة والمشاعر والحب واعتبرها فلسفة لا تليق بالإنسان ولا للحيوان.
لخص توماس كارلايل التصور العام لخطورة فائدة بنثامي على أنّها: “فلسفة الخنزير” وأنّها ليست أكثر من: “فضيلة الربح والخسارة”، ونقاد آخرون مثل الإصلاحيين اليمنيين جيمس ماكينتوش وتوماس بابينجتون ماكولاي الذي كان مستعدًا لمتابعة قيادة بنثام في إصلاح القانون وينتقد بشدة النظرة المتناقصة للطبيعة البشرية التي دعمت فلسفته وهاجم المقترحات الراديكالية للإصلاح السياسي التي انبثقت عن المعسكر النفعي.
ولبعض الوقت قام القديس الأنجليكاني جون كولز سكرتير بنثام قبل أن يأخذ الأوامر المقدسة بنشر كشف شديد لصاحب عمله السابق باعتباره مخربًا أنانيًا ومتعصبًا في النفعية غير المقنعة (1844) وهو عمل أثبت شعبيته بين زملائه رجال الدين.
كما ارتدى مهاجمون القرن التاسع عشر اللذين جاءوا من جميع النقاط عبر الطيف الفلسفي، حيث اعتبر ماركس بنثام: “غريمة البرجوازية الصغيرة” وأنّ النفعية هي أيديولوجية برجوازية سطحية وعابرة، والمتدينون المتشددون بما في ذلك أولئك الذين لديهم عزيمة فلسفية مثل الكلاسيكي جوزيف بيكرستث مايور والحدسي مثل ويليام ويويل والمثاليون مثل جرين وإتش برادلي وبرنارد بوسانكيه وديفيد جورج ريتشي مجتمعين لمهاجمة المذهب الذري والمادية الفجة ونظرية التحفيز ذات التفسير الضيق وعدم تقدير البعد الروحي للحالة الإنسانية.
يمكن للباحث القانوني هنري مين (Henry Maine) أن يعجب بالشجاعة والطموح اللذين اتسم بهما علم الفقه عند بنثام، ولكنه أعرب أيضًا عن أسفه لفشله في تقدير الطبيعة التاريخية والتطورية للقانون، وكما اعترض على إيمان بنثام بأنّ الجماهير الجهلة يمكن أن تعرف حقًا ما هو في مصلحتها.
على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي أحرزت فلسفة بنثام القانونية بعض التقدم لكن الأفكار الأخلاقية الكامنة قوبلت بمقاومة شديدة وزاد إلحاده المفترض وقودًا لنار الغضب من النقاد الإنجيليين، وفي سياق مختلف ربما يكون البراغماتيون ولا سيما ويليام جيمس وجون ديوي قد شاركوا مخاوف بينثام الأنطولوجية حول الكيانات الوهمية وأدركوا القيمة الحاسمة لمبدأ المنفعة لتطوير الليبرالية كفلسفة فعل، لكنهم رفضوا الادعاء القائل بأنّ كل الدوافع يمكن اختزالها في دافع للبحث عن المتعة وتجنب الألم والذي اعتبروه التزامًا يهزم نفسه بالفردانية المادية.
مثل جون ستيوارت ميل رفض البراغماتيون أيضًا فكرة أنّ أي شكل منفرد من خلاصة تلخيص الخير يمكن أن يفسر العديد من السلع التي يبحث عنها الناس، وكان هناك العديد من النقاد لبنتام منذ ذلك الحين.
ظهرت أيضًا العديد من التعليقات على فلسفة بنثام بدءًا من الروايات العامة المبكرة لليزلي ستيفن (Leslie Stephen) عام 1900 وإيلي هاليفي (Elie Halévy) عام 1904، ومجموعة واسعة من الأفكار التحريفية حول جوانب منفصلة من فكره، وقام هارت (1982) وبوستيما (1989) بصياغة دراسات مهمة حول فقه بنثام في حين أنّ الموضوعات التي شارك فيها المعلقون المعاصرون تشمل وجهات نظره النقدية حول العرق والعبودية، والاستعمار والإمبراطورية والزواج والطلاق والزنا والهجر وضرب الزوجة والحرية الجنسية.
يقدم سكوفيلد (2013) نظرة عامة على بعض الاتجاهات الجديدة في دراسات بنثام، والتي يمكن أن تضاف إليها مقالات حول بنثام العالمي ومقالات عن بنثام والفنون، وتم استلهام العديد من هذه التعليقات من نشر المجلدات الموثوقة في الأعمال المجمعة لجيريمي بينثام التي بدأت في الظهور في عام 1968 لتحل محل نسخة بورينغ (Bowring) غير المكتملة (1838-1843).
تستمر الأعمال المجمعة في تسليط الضوء على نسخ جديدة وأكثر اكتمالا من كتابات بنثام والمواد غير المنشورة سابقًا، وحديثًا تم نشر 34 مجلدا من أصل 80 مجلدا، ومع ظهور مجلدات جديدة ستستمر مواضيع المناقشة والنقاش في الزيادة مما يؤدي إلى تلميع سمعة الفيلسوف وتظل أفكاره ذات صلة في عدد كبير من المجالات التي تهم الأخلاقيين وعلماء النفس والاقتصاديين والمؤرخين والفلاسفة القانونيين والسياسيين.