الأعمال المبكرة للفيلسوف بنيامين بين كانط والخبرة

اقرأ في هذا المقال


تم التأكيد على أهمية الأجزاء المبكرة غير المنشورة للفيلسوف والتر بنيامين لفهم مشروعه الفلسفي الأوسع من قبل عدد من العلماء، وفي الواقع بدونهم يصبح من الصعب فهم السياق الفكري والتقاليد التاريخية التي يكتب بنيامين من خلالها، وبالتالي يكاد يكون من المستحيل فهم الأسس الفلسفية لأعماله.

فلسفة بنيامين في مفهوم التجربة:

من بين أوائل كتابات بنيامين المنشورة محاولته في مقال بعنوان الخبرة (Erfahrung) عام 1913/1914، للتمييز بين مفهوم بديل ومتفوق للتجربة الذي يوفر مقدمة مفيدة للانشغال المركزي والدائم بفكره، وإنّ اهتمام بنيامين بتحديد تجربة فورية وميتافيزيقية للروح أمر ذو قيمة في تقديم وصف موضوعي للمعارضة المفاهيمية التي تعمل طوال تفكيره، والتي تمت تصفيتها هنا من خلال المثل الثقافية لحركة الشباب.

ولكن هذا يتناقض مع الخبرات الفارغة والغير روحانية الطائشة (Geistlosen)، وغير الفنية المتراكمة على مدى حياة تعيش فقط من خلال (يختبر) (erlebt) مع هذا النوع المتميز من الخبرة المليئة بالمحتوى الروحي من خلال التواصل الدائم مع أحلام الشباب.

يبدو إن تأثير نيتشه في هذه النصوص السابقة واضح، ولا سيما في الأهمية التي يوليها الشاب بنيامين للتجربة الجمالية في التغلب على العدمية المريرة للقيم المعاصرة، على الرغم من أنّه غير قادر على التعبير عن هذا التحول الثقافي هنا بما يتجاوز جاذبية غامضة، إلى قانون الشعراء الألمان: شيلر وجوته وهولدرلين وستيفان جورج.

فكر بنيامين والفيلسوف كانط:

بحلول عام 1918 تم توضيح محاولة فهم أكثر منهجية وتطورًا فلسفيًا لـ (مفهوم أعلى للتجربة)، وذلك ضمن ما يسميه بنيامين الآن (الفلسفة القادمة) فيما يتعلق بالمثالية المتعالية للفيلسوف إيمانويل كانط، حيث يجادل بنيامين بأنّ قيمة الفلسفة الأفلاطونية والكانطية تكمن في محاولتها لتأمين نطاق وعمق المعرفة من خلال التبرير، والمثال على الطريقة التي يجري بها كانط تحقيقًا نقديًا في الظروف المتعالية للمعرفة.

لكن هذه المحاولة الكانطية لفهم معرفة معينة وخالدة تستند بدورها إلى مفهوم تجريبي للتجربة يُقتصر، كما يجادل بنيامين على تلك التجربة العارية والبدائية والواضحة بذاتها لعصر التنوير والتي يتمثل نموذجها في الفيزياء النيوتونية، على الرغم من تقديم كانط للذات المتعالية إلّا أنّ نظامه يظل مرتبطًا بفهم تجريبي ساذج للتجربة، من النوع المتميز في التقليد العلمي الوضعي باعتباره اللقاء بين موضوع متميز، والذي يُنظر إليه على أنّه وعي إدراكي ومعرفي يتلقى حدسًا معقولًا والموضوع يُفهم على أنّه شيء في حد ذاته يسبب الإحساس.

فكر بنيامين بين الفلسفة الكانطية واللغة:

على النقيض من ذلك فإنّ مفهوم التجربة ما قبل التنوير قد استثمر العالم بأهمية أعمق وأكثر عمقًا، لأنّ الخليقة تفترض أهمية دينية موحى بها، ويتجلى هذا ليس فقط في النظرة المسيحية العميقة للعالم لأوروبا في العصور الوسطى، ولكنه لا يزال قائماً في شكل علماني في عصر النهضة والإنسانية الباروكية، وفي مفكري (التنوير المضاد) مثل يوهان جورج هامان وجوته والرومانسيين.

يقترح بنيامين أنّ التحول الكبير والتصحيح الذي يجب إجراؤه على مفهوم التجربة، والموجَّه بشكل أحادي الجانب على طول الخطوط الرياضية الميكانيكية لا يمكن تحقيقه إلّا من خلال ربط المعرفة باللغة كما حاول هامان خلال حياة كانط، ففي مقال عن اللغة في حد ذاتها ولغة الإنسان (Über Sprache überhaupt und über die Sprache des Menschen).

يقدم بنيامين تصوراً لاهوتياً للغة حيث يعتمد على مناقشة هامان للخلق باعتباره بصمة مادية لكلمة الله الإلهية، وذلك لادعاء أنّه لا يوجد حدث أو شيء في الطبيعة الحية أو غير الحية لا يشارك بطريقة ما في اللغة، وهذا يعني أنّ كل التجارب -بما في ذلك الإدراك- هي في الأساس لغوية، في حين أنّ كل لغة بشرية بما في ذلك الكتابة التي ترتبط عادةً بمجرّد التقاليد هي بطبيعتها معبرة وخلاقة.

تحظى اللغة بامتياز كنموذج للخبرة في هذه المقالات المبكرة على وجه التحديد لأنّها تقوض وتتجاوز التقسيمات الدقيقة والقيود التي تعمل في النظام الكانطي، بما في ذلك تلك الأساسية التي تميز بين موضوع الأحاسيس وموضوعها، وإذا كان كلاهما لغويًا بشكل أساسي فإنّ اللغة تعمل كوسيلة خبرة تربط (الذات) و(الموضوع) الظاهريين بعلاقة أكثر عمقًا وربما صوفية من القرابة الكامنة.

بشكل عام تزود ميتاكريتية هامان بنيامين بشعور من النفاق في الفصل الكانطي للفهم والحساسية على أساس مفهوم فارغ وشكلي بحت للعقل الخالص، والذي لا يمكن افتراضه إلّا وفقًا للمحتوى الجمالي الملموس للغة.

المفهوم الفلسفي الجديد للتجربة لدى بنيامين:

في حين أنّ بنيامين ليس مهتمًا بالعودة إلى مشروع ما قبل النقد لاستنتاج عقلاني للتجربة، ولا إلى مفهوم ديني مباشر للعالم، حيث إنّه مهتم بكيفية تشويه المفهوم العلمي للتجربة الذي يستخدمه كانط أي بنية نظام كانط الفلسفي، وكيف يمكن تصحيح ذلك باستخدام المفاهيم اللاهوتية، ويجب ألّا تتناول نظرية المعرفة مسألة يقين المعرفة الدائم فحسب، بل يجب أن تتناول أيضًا السؤال المهمَّل المتمثل في نزاهة تجربة سريعة الزوال.

اقتراح بنيامين حول كيفية صياغة هذا المشروع ضمن النظام الكانطي غير واضح، لكنه مع ذلك يشير إلى بعض المخاوف المقلقة لكتاباته اللاحقة، وبشكل عام يتضمن توسيع الأشكال المكانية والزمانية المحدودة والفئات الآلية السببية بشكل أساسي لفلسفة كانط من خلال دمج، على سبيل المثال الخبرات الدينية والتاريخية والفنية واللغوية والنفسية.

يعكس اهتمام بنيامين الدائم بالجديد الذي عفا عليه الزمن وغير المتجانسة هذه المحاولة لدمج المزيد من الاحتمالات الظاهراتية للتجربة في مجال المعرفة الفلسفية، فإنّه يقاوم تفضيل أي تخصص واحد للمعرفة، ويحافظ على التعددية التي تنطوي على الحقيقة في مشكلة التمثيل الجمالي، وسيؤدي هذا إلى محاولة بنيامين إعادة التفكير جذريًا في المفهوم الفلسفي للفكرة بعيدًا عن ارتباطاتها الثنائية بجوهر الأشياء الخالد والعقلاني البحت.

يعتقد بنيامين أيضًا أنّ الميتافيزيقيا الأكثر تأملًا سوف تستلزم إلغاء التمييز الحاد بين الطبيعة والحرية -أو الآلية السببية والإرادة الأخلاقية- في معمارية كانط، ونظرًا لأنّه فهم محدد لـ (الديالكتيك) الذي يتوسط بين هذين المجالين في نظام كانط النقدي، فإنّ هذا يستلزم إعادة تفكير تأملية في الديالكتيك الكانطي، ويشير هذا إلى إمكانية فتح إمكانيات جديدة للعلاقات المنطقية القياسية نفسها، بما في ذلك ما يسميه عدم توليف معين لمفهومين في مفهوم آخر.

يمكن رؤية علاقة عدم التخليق التي تم التلميح إليها هنا لإثراء فهم بنيامين للفكرة باعتبارها كوكبة من التطرف في أصل مسرحية الحداد الألمانية والصورة الديالكتيكية في كتاباته الناضجة، وبهذا المعنى تمثل ميتاكريتيك بنيامين لكانط محاولة لبناء تقليد ما بعد كانط بديل عن تقليد الديالكتيك الهيغلي، ولذلك تطلب فلسفة جديدة للتاريخ.


شارك المقالة: