لا تزال العديد من أعمال الفيلسوف روجر بيكون تتطلب طبعات نقدية وفحصًا منهجيًا وتاريخيًا، مما يلقي مفتاحًا في أي محاولة للوصول إلى استنتاج نهائي حول إنجازاته في الفلسفة، وربما بسبب هذا الظرف وربما بسبب تألق بعض أفكاره التربوية، أو ربما بسبب رؤيته العلمية الاستراتيجية التي تهدف دائمًا إلى تحسين حياة الإنسان، فإنّ إرثه العلمي يستمر في لفت انتباه المؤرخين الفكريين حتى إذا لم يروق بيكون لمعاصريه.
دور البلاغة والشعر في فلسفة بيكون:
في تحديد الحجج الخطابية والشاعرية كأدوات مناسبة للإقناع الأخلاقي، لم يعمل بيكون في الفراغ ولكن كان مستوحى من المصادر اليونانية والعربية بالإضافة إلى دي دوكترينا كريستيانا لأوغسطين ومرتبط بهذا من خلال ممارسة الوعظ والتأويل الكتابي.
بالنسبة لبيكون كان أرسطو سيد البلاغة والشعر بلا منازع، ولقد نسب صراحة ملاحظات أرسطو الموجزة في الأخلاق النيقوماخية، مشيرًا إلى أنّ الفيلسوف الأخلاقي يجب أن يستخدم البلاغة بدلاً من البرهان الهندسي، وفي نفس الوقت أعرب عن أسفه لأنّ المعرفة الحالية بكل من البلاغة والشعرية لأرسطو كانت مفقودة، وأعدّ ويليام موربيك أول ترجمة كاملة للشعراء في عام 1280، وبدون معرفة مباشرة بشعرية أرسطو كان على بيكون الاعتماد على تعليق ابن رشد على الشعرية.
على سبيل المقارنة اعتبر بيكون أنّ البلاغة شيشرونية (نسبة إلى الفيلسوف شيشرون) من الاختراع والبلاغة الزائفة من الشيشرونية إلى الهرينيوم (De Inventione and the pseudo Ciceronian Rhetorica ad Herenium) ناقصة في الأمور العملية لأنّها كانت مقتصرة على حالات الخطابة الجنائية.
بصرف النظر عن أرسطو وأوغسطين كان هناك مرجع مهم آخر لبيكون أظهر العلاقة بين الخطاب والمخاوف الأخلاقية والمدنية وهو التقليد العربي للكتابات، وبما في ذلك منطق ابن سينا ورسالة الغزالي في المنطق، وخاصة كتاب الفارابي العلوم من الفصل الخامس لعلوم وعلم القانون المدني وعلم الكلام، ويمكن اعتبار عرض بيكون وإشادته بالبلاغة والشعر مساهمة تاريخية مهمة.
لم ينتقد بيكون حذفهم من المناهج الجامعية فحسب بل دافع عنها أيضًا ضد تهم السفسطة، وبدلاً من اعتبار البلاغة والشاعرية جزءًا من (Trivium) أي منهج الدراسي في القواعد والبلاغة والمنطق، فقد وضع استخدامها وفائدتها في سياق الفلسفة الأخلاقية لغرض الإقناع الأخلاقي، وبطريقة أصلية حقًا جمع بيكون بين مجالين متميزين من الخطاب وهما: البيئة الفنية التي يمثلها التقليد العربي والتقليد اللاهوتي المتمثل في أوغسطين.
لقد زرع أيضًا بذور خطوة مهمة في تاريخ البلاغة والشاعرية، والتي تتألف من الاعتراف بأنّه في حين أنّ مبادئ تدريس كيفية تكوين الحجج البلاغية تقع ضمن المنطق، فإنّ الاستخدام الخاص للبلاغة هو وظيفة الفلسفة الأخلاقية (التدريس واستخدام البلاغة – rhetorica docens and utens)، وفي مناقشة لاحقة في القرن الثالث عشر طوّر جايلز من روما هذه الإمكانية للبلاغة الأرسطية فيما يتعلق بالمسائل الأخلاقية في تعليقه على البلاغة.
أقسام البلاغة لدى بيكون:
بقدر ما يتعلق الأمر بتفاصيل مفهوم بيكون للبلاغة فقد اقترح تقسيمًا للبلاغة يتوافق مع التقسيم الثلاثي للفرع العملي للفلسفة الأخلاقية إلى:
1- إيمان.
2- فعل.
3- حكم صحيح.
لكل نوع من أنواع الإقناع هناك أسلوب بلاغي مطابق ثلاث ثنيات (triplex flexus)، وفي حالة الإيمان والدين الحقيقي فإنّ النوع المناسب من الإقناع يتضمن الموافقة والإثبات، بينما في حالات الحكم الصحيح فإنّ نوع الخطاب المطلوب هو خطاب الطب الشرعي والذي يستند إلى خطاب شيشرون، ويعتبر هذان الجزءان من بيكون خطابًا يتحدث تمامًا، ومع ذلك فإنّ تأرجح الناس تجاه الفعل الأخلاقي الذي يتجنب الشر ويسعى إلى الخير يتطلب علاجات أقوى، وقال بيكون إنّ نوع الحجة التي يجب استخدامها تسمى (الحجة الشعرية).
وهكذا فإنّ الشعرية وفقًا لبيكون تمثل النوع الثالث من الحجة البلاغية، وبالتالي فهي تشكل جزءًا لا يتجزأ من الفلسفة الأخلاقية، ومع ذلك كما أشار بيكون ليس كل الشعر يستحق الثناء، وهناك شعراء مثل أوفيديوس يحرض استخدامهم لخطاب ماهر شاعرية على الرعونة بدلاً من الفضيلة، والذين بمعنى ما يسيئون استخدام البلاغة عن طريق اختزالها إلى بهجة، وبالمقارنة فإنّ واجب الخطيب ليس فقط أن يرضي بل أن يعلّم ويتأرجح.
إنّ المعيار الذي بموجبه يمكن للمرء أن يميّز بين الشعراء الطيبين والمظلومين هو ما إذا كان الشاعر المعني يسلي فقط، أو ما إذا كان شعره يتخطى التسلية ليقلب الناس على العمل الجيد بدلاً من العمل التافه، وتتكون مصداقية الشعر وقابليته للثناء من فائدته العملية.
أنماط الخطاب لدى بيكون:
جميع أنواع البلاغة الثلاثة كما قدمها بيكون تروق للعقل العملي وترتكز على فكرة أنّه من خلال الكلام القوي يستطيع المتحدث الاتصال بمستمع على مستوى عاطفي ما، وإنّ الفرق بين النوعين الأولين من الخطاب، أي الخطاب الشرعي والخطاب المستخدم في حالات الإقناع الديني، والنوع الثالث الإقناع الأخلاقي الذي يولد الفعل وهو اختلاف في الأسلوب.
يميز بيكون بين ثلاثة أنماط:
1- أسلوب متواضع.
2- أسلوب متوسط .
3- أسلوب كبير.
ولقد ركز أكثر على الأسلوب الكبير ونسبه إلى الشعر لأنّ الشعر يتضمن الحديث عن أشياء عظيمة ورائعة، وباستخدام الأسلوب الكبير تنقل الحجة الشعرية المستمع بشكل فعال وقوي إلى الفعل الأخلاقي، ومن أجل الكفاءة أصرّ بيكون على أنّ الطرافة يجب أن تهيمن على الشعر، وكما دعا إلى خلط الأساليب لأنّ الإقناع الأخلاقي يستلزم أيضًا تعليمًا أخلاقيًا ومجموعة متنوعة من الأساليب تساعد في عدم السماح للملل بالانزلاق.
أوضح بيكون أنّ الأسلوب الكبير يتضمن استخدامًا تناظريًا (تماثلًا) للغة، موضحًا ذلك من خلال إعطاء أمثلة، وإنّ معرفة خصائص الأشياء مثل الضوء على سبيل المثال توسع النطاق الدلالي للخطيب وتزيد من الرسالة الأخلاقية المنقولة من خلال الجدل، والخاطئ الذي يرتد إلى الخطيئة بعد التوبة، كما استعار بيكون من العهد الجديد بأنّه يشبه الكلب الذي يعود إلى قيئه.
إنّ صحة مثل هذه الحجج لا ترتكز على خصائص الأشياء، فمن الواضح أنّ الشخص ليس كلبًا، وبدلاً من ذلك فإنّ العبارات الواردة في الحجج التناظرية صحيحة عن طريق التشبيه والمقارنة والقياس وصحيحة لغرض الإقناع، وفي اقتراح هذا النهج في استخدام اللغة للإقناع الأخلاقي اعتمد بيكون على مبادئ التأويل الكتابي.
يفترض التفسير الدقيق للمعنى الروحي للكتاب المقدس فهماً دقيقاً للنص الحرفي، والذي بدوره يفترض مسبقاً فهماً للعالم الطبيعي، وبعبارة أخرى فإنّ معرفة الطبيعة خاضعة ومفيدة في اللاهوت والفلسفة الأخلاقية.
بالإضافة إلى استخدام الأسلوب الكبير اقترح بيكون تضمين ذخيرة الإقناع الأخلاقي ليس فقط الوسائل اللغوية لتحريك الأذنين ولكن الحساسية لطبيعة ووضع الجمهور المعني، بحيث يجب على الخطباء أن ينتبهوا إلى حركة العقل والإيماءات الجسدية المناسبة، وبالتالي فإنّ الخطاب الأخلاقي العملي قادر على لمس المشاعر الإنسانية بشكل فعال، وأخذت تأملات بيكون في الاعتبار الأبعاد المختلفة للخطاب الأخلاقي العملي، بدءًا من الإيقاع والتنغيم فوق المحتوى إلى لغة جسد المتحدث.