التجديد في الأوزان والقوافي الشعرية في العصر العباسي الأول

اقرأ في هذا المقال


كان انتشار الغناء في العهد الأموي تأثير في إيقاع الكلام المنظوم وألحانه، حيث انتشرت في الشعر نظم الأبيات القصيرة في الغزل، وكان الشعراء في أغلب الأحيان يبتعدون عن النظم بالمقطوعات الطويلة شديدة التعقيد وتوجهوا إلى النظم بالوزن الخفيف السهل غير المعقد، وفي هذا المقال سنوضح التجديد في الأوزان في العهد العباسي.

التجديد في الأوزان والقوافي الشعرية في العصر العباسي الأول

كان استخدام الشعراء لبحور الشعر التي أسسها الفراهيدي استخدام مدروس لأبحر فيها من التنوع الموسيقي الشيء الكثير، مما يعطيهم الفرصة في أن يعبروا عن أحاسيسهم وأفكارهم بكل سهولة.

وهذا ليس بتقليل من مقدرتهم من المجيء بعكس هذه البحور التي أصبحت قاعدة لأهل الشعر، وعلى الرغم من هذا نرى تطويرًا رائعًا حصل في العهد العباسي في الأوزان والقوافي وبحور الشعر، ومن الأدلة على ذلك قول بشار بن برد في تعمقه في مجال البحوث والعروض:

عتب ما للخيال

 خبريني ومالي

 عتاب مالي أراه

 طارقًا بالليالي

 فقيل له: خالفت العروض، فقال: سبقت العروض.

وكان الشاعر أبو العتاهية من الشعراء الذين تركوا أنفسهم على طبيعتها فأبدع في وضع الأوزان والتي تتناسب ما نظموه من الشعر وقال عنه ابن قتيبة: “وكان لسرعته وسهولة الشعر عليه ربما قال شعر موزونًا يخرج به عن أعاريض الشعر وأوزان العرب” حيث استشهد بأبيات من قصائده حيث يقول:

عتب: ما للخيال 

خبريني ومالي؟

لا أراه أتاني

زائراَ مذ ليالي

لو رآني صديقي

رقّ لي أو رثى لي

التجديد في أوزان الشعر في العصر العباسي

ساهم الغناء وكذلك الموسيقى في الحياة العباسية أهل الشعر آنذاك بالقيام بتجديد أوزان الشعر وتبديل جرس الموسيقى، فيظهر الشعر في قمة السلاسة والسهولة والخفة حتى يتمكن المغنون من توظيف الشعر في أماكن غنائهم بسلاسة دون مشاكل في ملائمته للموسيقى والرقص، وعلى هذا توجه الشعراء إلى الإيجاز الراقص والألحان القصيرة ومن ذلك قول أبي نواس:

حامِلُ الهَوى تَعِبُ

 يَستَخِفُّهُ الطَرَبُ

إِن بَكى يُحَقُّ لَهُ

لَيسَ ما بِهِ لَعِبُ

 تَضحَكينَ لاهِيَةً

 وَالمُحِبُّ يَنتَحِبُ

 تَعجَبينَ مِن سَقَمي

 صِحَّتي هِيَ العَجَبُ

 كُلَّما اِنقَضى سَبَبٌ

 مِنكِ عادَ لي سَبَبُ

واتجه الشعراء إلى القوافي القصيرة؛ لأنها تعطيهم الفرصة في اختيار الألفاظ التي توضح مشاعرهم ومن ذلك ما كان يحبه أبو العتاهية وأكثر منها لسلاستها وسهولة اختيار المفردات التي تتلاءم معها، ولكن الفرق بينها وبين ما اعتاد عليه المتلقين لشعر أبي العتاهية هو هدوء موسيقى الشعر مقارنة مع شعر أبي العتاهية الذي يكون في العادة صاخب الموسيقى والجرس ومن ذلك قوله:

تَمَسَّكتَ بِآمالٍ 

طِوالٍ بَعدَ آمالِ

 وَأَقبَلتَ عَلى الدُنيا

 بِعَزمٍ أَيَّ إِقبالِ

 وَما تَنفَكُّ أَن تَكدَ

 حَ أَشغالاً بِأَشغالِ

 فَيا هَذا تَجَهَّز لِ

 فِراقِ الأَهلِ وَالمالِ

 عَلى حالٍ مِنَ الحالِ

 فَلا بُدَّ مِنَ المَوتِ

توجه الشعراء للبحث عن الأوزان التي تلائم الغناء من البحور الشعرية مثل: “بحر الهزج المتقارب والبحر الخفيف والرمل”، ثم قاموا بتجديد البحور القديمة وجعل نغماتها يتلاءم وشعرهم المغنى، ومن ثم عمدوا إلى تغير الأوزان وصناعة أوزان حديثة لم تكن معلومة من قبل، مثل المواليا الذي استخدم بواسطة جارية جعفر البرمكي إثر نكستهم الشهيرة.

وكانت “الموشحات والسلسلة والكاكان والدوبيت” جميعًا من أساليب تجديد الأوزان وصناعة أوزان حديثة رائجة ومطلوبة من قبل الشعراء وتلاؤمها مع الغناء والموسيقى، ومن أهم هذه التحديثات الموشحات، التي توسعت بشكل ملحوظ في الأندلس ونجد الدليل عليها، على سبيل المثال ما قاله ابن المعتز وربما وكلت إلى غيره ولكننا نأتيها كدليل على التجديد في الأوزان قوله: 

أَيُّها الساقي إِلَيكَ المُشتَكى

 قَد دَعَوناكَ وَإِن لَم تَسمَع

 وَنَديمٌ هِمتُ في غُرّتِه

 وَشَرِبت الراحَ مِن راحَتِه

 كُلَّما اِستَيقَظَ مِن سَكرَتِه

 جَذَبَ الزِقَّ إِلَيهِ وَاِتَّكا

 وَسَقاني أَربَعاً في أَربَع

 غُصنَ بانٍ مالَ مِن حَيثُ اِستَوى

التجديد في القوافي في العصر العباسي

ظهرت “القوما” بشكل حديث نتيجة التحديثات وتعني كتابة بيتين من الشعر قافية واحدة، وقد اكتشفه الشعراء العباسيين وقد أتت تسميتها (قوما) من قولهم: ” قومًا نسحر قوماً “، كلام ملحون ويدخلها الحديث العامي والأعجمي، الدليل في هذا قول بشار بن برد:

تحمل الظاعنون فأدلجوا 

والقلب مني الغداة مختلج

وهذا الشعر من البحر المنسرح، وفي بحور الخليل البحر المنسرح عروضه صحيحة، ولكن الضرب فيه مطويًا حيث يكون البحر على النحو الآتي:

 “مستفعل مفعولات مستفعل مستفعل مفعولات مفتعل”، لكن بشار بن برد استخدم القوافي مطوية وليست سليمة والضرب مطوي فكانت القوافي (مفتعل) والضرب (مفتعل) ولم يكن هذا فقط في بيت واحد بل في جميع الأبيات.

ولقد كان التحديث في الأوزان والقوافي نوعاً من التميز وعلى الرغم من تناقض أهل الأدب حول ذلك إلا إنه نوع من التحديث وبث الروح في الأوزان الشعرية والقوافي، برزت بشكل واضح عند العديد من الشعراء ومن أشهرهم بشار بن برد الذي كان ينعته الجاحظ بأنه: “إنه كان شاعرًا، راجزًا سجاعًا ،خطيبًا، صاحب منثور ومزدوج”، وأيضًا نعته ابن رشيق بأنه كان ينتج المُخمسات والمزدوجات عبثًا وتقليل من شأن الشعر.

نماذج لأشهر شعراء العصر العباسي الذين اهتموا بالوزن والقافية

1- بشار بن برد في قصيدة يفخر فيها بِقبيلة قيس حيث يقول:

إذا الملك الجبّار صعّر خدّه

مشينا إليه بالسيوف نعاتبه

وكنّا إذا دبّ العدّو لسخطنا

وراقبنا في ظاهر لا نراقبه

ركبنا له جهرا بكلّ مثقّف

وأبيض تَستسقى الدماء مظاربه

وجيش كجنح اللّيل يزحف بالحصى

وبالشّوك والخطّيّ حمر ثعالبه

2- العباس بن الأحنف:

إِذا لُمــتُ عَــيــنَــيَّ اللَتَـيـنِ أَضَـرَّتـا

بِـجِـسـمِـيَ فيكُم قالَتا لي لُمِ القَلبا

فَـإِن لُمـتُ قَـلبـي قـالَ عَـيناكَ هاجَتا

عَـلَيـكَ الَّذي تَلقى وَلي تَجعَلُ الذَنبا

وَقـالَت لَهُ العَـيـنـانِ أَنـتَ عَـشِـقـتَها

فَـقـالَ نَـعَـم أَورَثـتُـمـانـي بِها عُجبا

3- أبو نواس ومن أشعاره:

عاج الشقيُّ على رسم يسائله

وعجت أسألُ عن خمّارة البلد

يبكي على طلل الماضين من أسد

لا درّك قل لي من بنوا أسد؟

كم بين ناعت خمر في دساكرها

وبين باك على نوَّي ومنتضد

4- أبو تمام ومن أشعاره في المديح:

السيف أصدق إنباء من الكتب

في حدّه الحدّ بين الجدّ واللّعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في

متونهن جلاء الشك والرّيب

وفي النهاية نستنتج أن للشعر صفات موسيقية قادمة من الوزن والقافية وقد اهتم أهل الشعر في العهد العباسي بالأوزان والقوافي، وقاموا على استحداث أوزان تتناسب مع الشعور العام وتتلاءم مع روح العصر في ذلك الوقت، وعمدوا إلى أوزان قديمة وضعها الفراهيدي.


شارك المقالة: