التجديد في شعر أبو تمام

اقرأ في هذا المقال


تميز العهد العباسي بالترف وحياة الرفاهية كما برز بأدبه وعلومه وكذلك الكلام المنظوم حيث برز على هيئةٍ أنيقة تنبثق منه أروع المواضيع، وساعده على ذلك عدة عوامل منها مُتعلق بالبيئة الرائعة الملهمة لهم كذلك بفضل الحكام الذين حثُّوا عليه وأجزلوا العطاء لأهله، ومن أبرز اهل الشعر في ذلك الوقت نذكر أبو تمام الذي أبدع فيه وحدَّث في أغراضه وعموده، وفي هذا المقال سنتناول التجديد والتحديث في مقطوعات أبو تمام ومواضيعه المستحدثة.

لمحة عن حياة أبو تمام

هو ” أبو تمام حبيب بن أوس الطائي” يعدُّ من أبرز رواد الكلام المنظوم في عصره عُرف عن أبي تمام أنه كان أسمر البشرة طويل القامة فصيح اللسان، ذو خلق حسن جيد الصفات الطباع وكان فطن سريع البديهة برز في شعر التفاخر بنفسه وبقومه وكان يعتز كثيراً بعروبته، وفي ذلك يقول:

بِالشِعرِ طولٌ إِذا اِصطَكَّت قَصائِدُه

في مَعشَرٍ وَبِهِ عَن مَعشَرٍ قِصَرُ

سافِر بِطَرفِكَ في أَقصى مَكارِمِنا

إِن لَم يَكُن لَكَ في تَأسيسِها سَفَرُ

هَل أَورَقَ المَجدَ إِلّا في بَني أُدَدٍ

أَوِ اِجتُنِيَ مِنهُ لَولا طَيِّىءٌ ثَمَرُ

كان أبو تمام يسير على طريقة ديك الجن وتعلم الصناعة اللفظية وقال النقاد عنه: ” إن ديك الجن يتبع مذهب أبي تمام، بدلاً من قُولهم: إن أبا تمام يقتفي مذهب ديك الجن.”

كما اهتم أبو تمام بتعلم العلوم الدخيلة مثل فلسفة اليونان، وكذلك آداب الفرس وتأثر بالعلوم الدخيلة وبرز الأثر في أشعاره فتعددت الأغراض وتنوعت الأفكار ومن ذلك يقول:

هَب مَن لَهُ شَيءٌ يُريدُ حِجابَهُ

ما بالُ لا شَيءٍ عَلَيهِ حِجابُ

ما إِن سَمِعتُ وَلا أَراني سامِعاً

أَبَداً بِصَحراءٍ عَلَيها بابُ

مَن كانَ مَفقودَ الحَياءِ فَوَجهُهُ

مِن غَيرِ بَوّابٍ لَهُ بَوّابُ

التجديد في الموضوعات الشعرية عند أبي تمام

1- المديح: حظيَّ العهد العباسي بنهوض وتطور واضح في جميع الآداب والعلوم وطال التطور الكلام المنظوم حيث اهتم رواده بالنظم بالأغراض التقليدية وخاصة المدح، لكن مع زيادة عليه وعلى معانيه وأشكاله كي يتمكن من مواكبة الأحداث المتغيرات التي طرأت في ذلك الوقت.

كان أبو تمام من أشهر رواد الكلام المنظوم حيث سلك منهج جديداً مغاير كما كان متداول منذ القدم، ومثال على ذلك ما كتبه في المعتصم:

غَدا المُلكُ مَعمورَ الحِمى وَالمَنازِلِ

مُنَوِّرَ وَحفِ الرَوضِ عَذبَ المَناهِلِ

بِمُعتَصِمٍ بِاللَهِ أَصبَحَ مَلجَأً

وَمُعتَصَماً حِرزاً لِكُلِّ مُوائِلِ

لَقَد أَلبَسَ اللَهُ الإِمامَ فَضائِلاً

وَتابَعَ فيها بِاللُهى وَالفَواضِ

كذلك يقول:

تَراهُ إِلى الهَيجاءِ أَوَّلَ راكِبٍ

وَتَحتَ صَبيرِ المَوتِ أَوَّلَ نازِلِ

تَسَربَلَ سِربالاً مِنَ الصَبرِ وَاِرتَدى

عَلَيهِ بعَضبٍ في الكَريهَةِ قاصِلِ

وَقَد ظُلِّلَت عِقبانُ أَعلامِهِ ضُحىً

بِعِقبانِ طَيرٍ في الدِماءِ نَواهِلِ

كذلك من مظاهر التجديد في هذا المجال أنه لم يلجأ إلى المقدمة في وصف البيئة والتغني بمظاهر الجمال فيها، ووظفها في مقطوعاته كي تخدم مقصده، فقد دمج بين المدح والبيئة في ذلك يقول:

ديمَةٌ سَمحَةُ القِيادِ سَكوبُ

مُستَغيثٌ بِها الثَرى المَكروبُ

لَو سَعَت بُقعَةٌ لِإِعظامِ نُعمى

لَسَعى نَحوَها المَكانُ الجَديبُ

لَذَّ شُؤبوبُها وَطابَ فَلَو تَسطيعُ 

قامَت فَعانَقَتها القُلوبُ

كانت تبدأ مقطوعاته المدحية مباشرة بالموضوع الرئيسي بلا تمهيد أو مقدمات على خلاف المتعارف عليه عند رواد الكلام المنظوم ومثال على ذلك ما نظمه في مدح المعتصم في فتح عمورية، حيث بدأ قصيدته بذكر التنجيم والحسام، لأن أهل التنجيم كانوا قد حذروه من فتحها في هذا الوقت، وفي ذلك يقول:

السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ

في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في

مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ

وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً

بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ

ومن مظاهر التجديد أيضاً في الكلام المنظوم لأبو تمام وقلّده الكثير في ذلك الوقت كالمتنبي هي خاتمة أبياته التي خصصها لمدح نفسه وإشعاره ومثال على ذلك قوله عندما مدح المعتصم:

فالأرض دارٌ أفقرت ما لم يكن 

من هاشمٍ  رَبٌّ لتلك الدار

سور القران الغُرُّ فيكم أُنزلت 

ولكم تُصاغ محاسن الأشعار

2- الرثاء: كتب أبو تمام مقطوعات كثيرة في الرثاء التي قيلت بعد وفاة شخصيات مشهورة في ذاك الوقت وغلب على رثائه أنه كان رقيق المشاعر يرثي دون تكلف، حيث يظهر في رثائه مدى الخسارة جراء الفَقد ويُسهب في ذكر صفات الميت فتظَّهر المقطوعات لديه وكأنها مقطوعات مَديح وفخر وبكاء ومنها ما قاله في خالد الشيباني:

نَعاءِ إِلى كُلِّ حَيٍّ نَعاءِ

فَتى العَرَبِ اِحتَلَّ رَبعَ الفَناءِ

أُصِبنا جَميعاً بِسَهمِ النِضالِ

فَهَلّا أُصِبنا بِسَهمِ الغِلاءِ

أَلا أَيُّها المَوتُ فَجَّعتَنا

بِماءِ الحَياةِ وَماءِ الحَياءِ

كان يستهل أبو تمام مراثيه بذكر الدموع وتفطُر القلوب بسبب مصيبة الفقد ويردد:

لَو صَحَّحَ الدَمعُ لي أَو ناصَحَ الكَمَدُ

لَقَلَّما صَحِباني الروحُ وَالجَسَدُ

خانَ الصَفاءَ أَخٌ كانَ الزَمانُ لَهُ

أَخاً فَلَم يَتَخَوَّن جِسمَهُ الكَمَدُ

ولم يتوانى من ذكر صفات المرثي وخصوصاً شجاعته، وربما يرجع سبب ذلك إلى كثرة مدحه للقادة، ومثال على ذلك بكاؤه على خالد بن يزيد:

سَلِ المُلكَ عَن خالِدٍ وَالمُلوكَ

بِقَمعِ العِدى وَبِنَفيِ العَداءِ

أَلَم يَكُ أَقتَلَهُم لِلأُسودِ

صَبراً وَأَوهَبَهُم لِلظِباءِ

أَلَم يَجلِبِ الخَيلَ مِن بابِلٍ

شَوازِبَ مِثلَ قِداحِ السَراءِ

فَمَدَّ عَلى الثَغرِ إِعصارَها

بِرَأيٍ حُسامٍ وَنَفسٍ فَضاءِ

كما يتحول أبو تمام في مراثيه إلى شخص واعظ يحاول أن يشد أزر مستمعيه وتخفيف الحزن عنهم ويساعدهم من أجل الصبر والسلوان وفي ذلك يقول عند نصح نوح بن عمرو عندما فقد ابنه: 

عَزاءً فَلَم يَخلُد حُوَيٌّ وَلا عَمرُو

وَهَل أَحَدٌ يَبقى وَإِن بُسِطَ العُمرُ

سَيَأكُلُنا الدَهرُ الَّذي غالَ مَن نَرى

وَلا تَنقَضي الأَشياءُ أَو يُؤكَلَ الدَهرُ

وَأَكثَرُ حالاتِ اِبنِ آدَمَ خِلقَةٌ

يَضِلُّ إِذا فَكَّرتَ في كُنهِها الفِكرُ

ومن مظاهر التجديد في مراثيه توجهه إلى رثاء الأطفال والإناث ومعروف أن الطفل ليس له تاريخ أو أمجاد يمكنه من ذكرها ورثائه، وكذلك النساء حين يرثي امرأة يكون قد خرج عن العادات ومثال على ذلك ما قاله عند موت صغار عبدالله:

ما زالَتِ الأَيّامُ تُخبِرُ سائِلاً

أَن سَوفَ تَفجَعُ مُسهِلاً أَو عاقِلا

إِنَّ المَنونَ إِذا اِستَمَرَّ مَريرُها

كانَت لَها جُنَنُ الأَنامِ مَقاتِلا

في كُلِّ يَومٍ يَعتَبِطنَ نُفوسَنا

عَبطَ المُنَحِّبِ جِلَّةً وَأَفائِلا

ما إِن تَرى شَيئاً لِشَيءٍ مُحيِياً

حَتّى تُلاقيهِ لِآخَرَ قاتِلا

3- الوصف: أكثر رواد الكلام في العهد العباسي من الوصف وخصوصاً وصف البيئة واتقنوا ذلك وكذلك كان أبو تمام، لكنه جعله موضوع مستقل له مقطوعات مستقلة وكان يسقط عواطفه المكنونة وأحزانه على البيئة ومن ذلك:

غَنّى فَشاقَكَ طائِرٌ غِرّيدُ

لَمّا تَرَنَّمَ وَالغُصونُ تَميدُ

ساقٌ عَلى ساقٍ دَعا قُمرِيَّةً

فَدَعَت تُقاسِمُهُ الهَوى وَتَصيدُ

إِلفانِ في ظِلِّ الغُصونِ تَأَلَّفا

وَاِلتَفَّ بَينَهُما هَوىً مَعقودُ

وفي النهاية نستنتج إن العهد العباسي كان متميزاً بالرفاهية والترف وظهر في ذاك الوقت الكثير من الآداب المستحدثة بسبب البيئة، وكذلك تشجيع ولاة الأمر الذين أجَزلوا العطاء لرواد الشعر ومن رواد الأدب الذين جددوا في أغراضهم نذكر أبو تمام.


شارك المقالة: