عندما نشأ فن الترجمة في بداياته كانت التحديّات التي تحيط به قليلة جدّاً؛ والسبب في ذلك هو أنّه كان يقتصر على ترجمة الكتب الأدبية وبعدد قليل، أمّا مع انتشار الترجمة وتعدّد مجالاتها وأنواعها وحتى أساليبها، صارت الترجمة تعاني من تحديّات كثيرة، وتعدّدت معها الآراء في اعتبار الترجمة فن يؤثّر على النص بشكل إيجابي أو سلبي، سنتحدّث عزيزي القارئ في هذا المقال عن بعض التحديّات والصعوبات التي يقاومها المترجم والقارئ في عملية الترجمة.
التحديات التي يواجهها المترجم والقارئ في الترجمة
اختلفت الآراء ما بين تحديّات الترجمة والانتصارات التي حقّقتها، وهل هذه الانتصارات صغيرة أم كبيرة؟ تبدأ تحديّات الترجمة من اعتبارها رهان صعب بالنسبة للمترجم، وتعتبر كذلك معاناة مستديمة له وامتحان صعب له، وسنبدأ بتوضيح هذا الامتحان من خلال عمل مقارنة بين مهنة المترجم ومهنة الحدّاد، وهي مقارنة غريبة بعض الشيء، ولكن هنالك أوجه تشابه بسيطة يمكن ذكرها.
تشبه مهنة المترجم مهنة الحداد في مبدأ (الإنقاذ والخسارة)، ولكن السؤال الذي يخطر بذهن القارئ هو ما المقصود بالخسارة، وما المقصود بالإنقاذ؟ هنالك ثلاثة أطراف في عملية الترجمة وهم: المترجم، القارئ متلقي النص وصاحب النص، ومهمّة المترجم هنا هي تمرير النص من الكاتب للمتلقّي كاملة، وتعتبر هذه المهمّة ليست سهلة أو مريحة لصاحبها، وكما وصف (فرانز روزنزفايغ) هذه العملية بقوله: (الترجمة خدمة سيدين، الغريب داخل عمله والقارئ ورغبته في التملك).
وهذا يوضّح بأن المترجم يقع بين نارين وهما: رغبة الوفاء، وشكوك عدم الوفاء، أو بوصف (شلايرماخر) (ربط القارئ بالكاتب، وربط الكاتب بالقارئ)، وعمل المترجم أيضاً بوصف البعض هو عملية تحدّي في تقديس اللغة الأم أو طمس هويّتها، ومن أهم أسباب هذا التحدّي هو ان القارئ عن قراءته للنص المترجم؛ فهو يسعى للاكتفاء الذاتي، ولا يكترث بوساطة الأجنبي وتعدديّة لغاته، وهو لا يكترث لمحاولات الهيمنة الثقافية، على سبيل المثال سيطرة الثقافة اللاتينية، وسيطرة الثقافة الفرنسية في العصر الكلاسيكي، وفي عسرنا الحالي هي هيمنة (الأنجلو) الأمريكية.
عندما يتجاهل القارئ مثل هذه المحاولات فهو يقاوم، ومعنى المقاومة هنا أي أنّه يقاوم النوايا الخفية التي تفرضها هذه الثقافات المختلفة، والتي تكون مختفية أحياناً بين السطور، وهذه المقاومة لا تقابل القارئ قبل أن تقابل المترجم نفسه، وتظهر أحياناً على شكل شكّه في عدم قابلية النص للترجمة؛ فعندما يقوم بقراءة نص ويلاحظ مدى هيمنة الثقافة بداخله، فيبدأ بالمعاناة في عدم ثقته بأنّه سيستطيع نقل هذه الثقافة لأهل بلده أم لا.
هنالك رأي من قبل البعض ولكنّه يوصف في عملية الترجمة بالوصف المبتذل وهو (الأصل لا يمكن أن يبطن بأصل آخر)، وهو رأي مبتذل لأنّه يشكّك في عملية الترجمة، بالإضافة إلى أن الترجمة لا يمكن أن توصف بأنّها فعل كامل أو مكرّر أو (أصل مكرّر)، ولكن بالوقت ذاته هنالك أصعدة في الترجمة يواجهها المترجم تجعل من عمليّة الترجمة تحدي ورهان له.
يعتبر التحدي الأصعب للمترجم والمقاومة الأكبر هي في مجال ترجمة أعمال الشعر، وتكمن المشكلة أن الشعر هو (اتحاد لا يمكان فصله) وعناصر الاتحاد هي: (الصوت، المعنى، الدال والمدلول)، أمّا عن بقيّة النصوص فكمن المشكلة بالتقطيع للحقول الدلالية؛ حيث يصعب أن نجد تقطيع مطابق للمعنى الأصلي في النص، وتصل الصعوبة إلى مرحلة الذروة عندما يواجه المترجمة كلمات مفتاحية أو (keywords) والتي تحتّم عليه أحياناً أن يقوم بترجمتها بشكل حرفي.
يلجأ المترجم هنا لأسلوب (الإعادة) أو (التحويل) للكلمات المفتاحية، بالإضافة للدلالات التي يطلق عليها البعض اسم (الدلالات نصف الخرساء)، وهذا لأنّها تحمل معاني معجمية ليست دقيقة كما هي في المعجم الأصلي، هنا تكمن المقاومة ليس للمترجم فقط بل للقارئ في تقبّل الترجمة.
نأتي الآن لذكر المقاومة الأصعب لكل من المترجم والقارئ وهي ترجمة النصوص الفلسفية؛ فهنا يعتبر من الصعب جدّاً أن يتوافق النصّين الأصلي والمترجم بالفلسفة ذاتها، بل أحياناً ربمّا يكون المترجم بوضع نص ثالث لتوضيح التشابه بين فلسفة النص الأصلي والنص الهدف، ويقترح البعض بأن يقوم القارئ بقراءة النص نفسه وأن يكون ثنائي اللغة؛ فبهذه الطريقة يمكنه فهم الفلسفة دون اللجوء لترجمات أخرى.
باختصار تكمن مقاومة المترجم في الترجمة في قابلية النص للترجمة أو عدمها، وتكمن مقاومة القارئ في تقبّل هذا النص المترجم أو عدمه.