التعبير عن الذات في الشعر العباسي

اقرأ في هذا المقال


عانى شعراء الخلافة العباسية العديد من الأحداث في حياتهم وانعكست بشكل ملحوظ في مقطوعاتهم الشعرية، ومن هذه الأحداث التي عانوها أحداث تتعلق بأنفسهم مثل السجن أو الفقر والعوز وفقدان البصر وغيره من مآسي، حيث قاموا بتصوير كل هذه في أشعارهم بصورةٍ رائعة حيث تناولت معاناتهم الذاتية، وفي هذا المقال سنتناول سنتحدث عن الذات من خلال الشعر في العهد العباسية بالشرح والتوضيح.

مفهوم الذات

وردت العديد من المفاهيم لذات وهناك ترادف بين هذه المفردات وقد جاءت بمعنى النفس وأيضاً العين أي ذات الأمر نفسه وعينه وأهله وحقيقته، وأيضاً جاءت بمعنى ماهية الوجود أي الصفات التي تميز عن غيره.

والذَات هي سمات الشخص الجسدية والأخلاقية والاجتماعية ويقصد بهذا المعنى هي حقيقة الشخص، يقال ذات مكانة رفيعة أي له أهمية، ويقال نكران الذات يقصد به التضحية وعن ذلك تحدث الجرجاني: “ذات الشيء نفسه وعينه، وهو لا يخلو من العرض، والفرق بين الذات والشخص، أن الذات أعم من الشخص، لأن الذات تطلق على الجسم وغيره، والشخص لا يطلق إلا على الجسم”.

التعبير عن الذات في العصر العباسي

مرَّ الشعراء في هذه الفترة بالعديد من الظروف التي كان لها أثر في حياتهم ومما عانوه في حياتهم من فقر وحاجة وحرمان وسجن وفقدان البصر، كل ذلك أمور ذاتية إنسانية تناولوها في أشعارهم وعبروا عن مدى الألم الذي أحسوا به جراء هذه الأمور الذاتية، وكان شعرهم مرآة تعكس مرارة ما عانوه وسمي هذا الشعر آنذاك بالشعر الذاتي، وفيما يلي

أبرز حالات الذات التي تناولها الشاعر في أشعاره

1- فقدان البصر: تأثر الشاعر كغيره من البشر بنشاط وفعالية أعضاء جسده فإذا خسر أي جزء منها فإنه سيُرهق جراء ذلك وسينعكس ذلك على شخصيته وأسلوب حياته وتعامله مع الناس، إن البصر من أعظم نعم الله التي منحها للمخلوقات وإن خسرتها تؤدي إلى ألم وأذى نفسي للشخص، وخسارة البصر تجعل الشخص كثير القلق مما يجري حوله وذلك بسبب شعوره بالتقصير وعدم معرفة ما يدور حوله.

وينتج عن هذا الشعور بِفقدان الأمان ولهذا نجده كثير الخوف يتجنب الدخول بمغامرات فتبقى معرفته بالبيئة معرفة غير كاملة؛ لأن اكتمال هذه المعرفة لا يكون إلا بالنظر والتمعن، وهو محروم من هذا ويعبر طه حسين عن نفسه بالأعمى:

“هذه المصيبة تورثُ صاحبها من الحزن ما يلزمه في جميع أطوار حياته لا يفارقه ولا يَعدوه ذلك لأنه يذكر بصره كلما عرضت له حاجة، وكلما ناله من الناس خير أو شر، بل كلما لقيتهم في مجمع عام أو خاص، فما يزال الحزن يؤلمه ويخزه إلا أن يفقد الشعور وتصيبه البلادة المطلقة.”

وعرف أهل الشعر بامتلاكهم الشعور المرهف والتذوق الشعري لذلك صوروا أحاسيسهم بأدق المشاعر وأصدقها، وأمثال أولئك بن عبد القدوس الذي رثى نفسه بأجمل المقطوعات الشعرية نتيجة فقدانه لبصره حيث يقول:

عزاؤكِ أيَّها العين السكوب

ودمعك أنها نوبٌ تنوب

وكنت كريمتي وسراج وجهي

وكانت لي بك الدنيا تطيب 

فإن أكُ قد ثكلتك في حياتي 

وفارقني بكِ الألف الحبيب

يواسي عبد القدوس ذاته ويُعزيها بِفقده لِبصره وهي من أهم نعم الله لعباده، يقول في أبياته أن هذا الأمر يعد من مصائب الدنيا وأن لكل فرد نصيب من هذه المصائب، وشبهها بالحبيب والأليف وفي هذه الحياة دائما يفترق الأليف عن أليفه ويستمر في رثاء عينه ويقول:

على الدنيا السلام فما لشيخ

ضرير العين في الدنيا نصيب

يموت المرء وهو يعدُّ حياً

ويخلفُ ظنّه الأمل الكذوب

يمنيني الطبيب شفاء عيني

وما غير الإله لها طبيب

إذ مات فابك بعضاً

فإن البعض من البعض قريب

ونذكر الشاعر الشيص الخزاعي الذي بكى عينه، حيث نظم أبياتاً من الشعر توضح مدى الألم والمعاناة التي عاشها الشاعر جراء خسارة بصره حيث يقول:

يا نفس بكّى بادمعِ هُتُنِ  

وواكفٍ كالجمان في سننِ

على دليلي وقائدي ويدي

ونور وجهي وسائس البدن

أبكي عليها مخافة أن

يَقرنني والظلام في قرن

كما اشتكى أبو يعقوب الخزيمي من خسارة بصره في أبياته التي أظهرت مدى معاناته جراء هذه الخسارة حيث أنشد:

كفى حزناً أن لا أزور أحبتي

من القرب إلا بالتكلف والجهد

وأني إذا ما حُييتُ ناجيتُ قائدي

يعدلني قبل الإجابة بالرد

إذا ما أفاضوا بالحديث تقاصرت

بي النفس حتى ما أحيرُ وما أبدي

كأني غريبُ بينهم لست منهم

فإن لم يحولوا عن رخاءٍ وعن عهد

أقاسي خطوباً لا يقوم بثقلها

من الناسي إلا كلَّ ذي مرةٍ جَلدِ

2- الفقر وسوء الأوضاع: رغم حياة الرفاهية والترف الذي برز في الفترة العباسية إلا أن هذا كان مقتصر على الخلفاء والأمراء ورجال الدولة، وكانت الطبقة الفقيرة معدمة الحال تعاني من الجوع والحرمان والعوز، ولاقت هذه الظاهرة صداها لدى أهل الشعر في الفترة العباسية، وتحدث شوقي ضيف عن ذلك قائلاً:

“ومن المؤكد أن الطبقات البائسة في العصر، كانت أكثر طباقته عدداً، وكانت تكدح وتشقى وتَتصب عرقاً لينعم الخلفاء والوزراء وعلية القوم وكبار التجار والأقطار عيون بالحياة الرغدة والعيش الناعم غير مفكرين في جوع جائع، ولا في تعري عار، بينما تتجرع الطبقات الفقيرة آلاماً ثقلاً، وأهوالاً طولاً، وكأنما عميت الأبصار وصُمت والأسماع.”

تناول أهل الشعر في الفترة العباسية هذه الظاهرة في أشعارهم وخير من قام بذلك أبو الشمقمق حيث صور الفقر الذي يعيش فيه حيث لا مأوى له ولا سكن، حيث سكن الخلاء حتى أن الضيف إذا أتاه مسلماً لا يحتاج الاستئذان لأنه يلج على الفور حيث لا باب لديه ليستأذن ويقول في ذلك:

برزت من المنازل والقباب 

فلم يعسر على أحد مَجابي

فمنزلي الفضاء وسقف بيتي

سماء الله أو قطع السحاب 

فأنت إذا أردت دخلت بيتي

عليَّ مسلماً من غير باب

ونراه يوجه أشعاره للمنصور طالباً منه أن يعطيه من العطايا والأموال في قصيدة مدحه فيها حيث يقول:

يا أيها الملك الذي

جمع الجلالة والوَقارة

ورث المكارم صالحاً

والجمود منه عمارة

أني رأيتك في المنام 

وعدتني منك الزيارة

فغدوت نحوك قاصداً

وعليك تصديق العبارة

3- السجن: خُلق الإنسان حراً طليقاً وإذا ما حرم من هذه النعمة شعر بالضيق والحزن لذلك كان السجن من الأماكن المكروهة والمرفوضة لما يشعر به السجين من الوحدة والعزلة، وأثر ذلك على نفسية أهل الشعر عندما يسجنون في أمر ما فيبثون شكواهم ومعاناتهم في هذا السجن من خلال أشعارهم، وعن ذلك تحدث عبد القدوس في أبياته قائلاً:

إلى الله أشكو إنه موضع الشكوى

وفي يده كشفُ المضرة والبلوى 

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها

فلسنا من الأحياء فيها ولا موتى 

إذا دخل السجّانُ يوماً لحاجةٍ

عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا 

كذلك علي بن الجهم قد أُسر وقيدت حريته وكتب أبياته وبعثها إلى طاهر يشكو السجن قائلاً:

إن كان لي ذنب فلي حرمةٌ

والحق لا يدفعه الباطل

وحرمتي أعظم من زلتي

لو نالني من عدلكم نائل

ولي حقوق غير مجهولة 

يعرفها العاقل والجاهل

وفي النهاية نستنتج أن أهل الشعر في الفترة العباسية تحدثوا عن ذاتهم في أشعارهم وما عانوه من أسى وحرمان جراء ذلك، وكانت أشعارهم معبرة توضح مرارة العيش جراء ما أصابهم من مصائب الحياة.


شارك المقالة: