لقد قدمت حنة أرندت مفهومين مختلفين للحكم وهما الأول أخلاقي وهو إعادة تفسيرها السقراطي للحتمية القاطعة للفيلسوف إيمانويل كانط، بينما الثاني سياسي ويمثل تكيفها السقراطي لعقلية كانط الموسعة.
كما أنّ مفاهيم أرندت للحكم تعمل على مسارين مختلفين من الفكر خلال عملها، والذي يتفرع أحد القطارات من توصيفها لأدولف أيخمان ككائن طائش، ويتكون في الغالب من استكشافها للعلاقة المحتملة بين التفكير والأخلاق والبحث عن مصدر مستقل للأخلاق، وفي هذه الحالة الأولى تعيد أرنت صياغة حتمية كانط القاطعة في المصطلحات السقراطية من خلال الكشف عن مبدأ احترام الذات غير الضروري.
أمّا قطار الفكر الثاني أقل عرضية، حيث إنّه ينبع من إدراك أرنت أنّ استعادة التعددية والعالم بين الرجال يتطلب أكثر من مجرد استعادة ظاهرية للفعل السياسي، وإنّه يتطلب استعادة العامة والتعبير المتساوي للفكر، وفي هذه الحالة الأخرى تقترح أرندت إعادة تقييم الفرونيمو السقراطي عن طريق المفاهيم الكانطية للحس المشترك والعقلية الموسعة، والنتيجة هي مفهومها عن التحكيم.
القدرة السياسية بين فلسفة أرنت وفلسفة كانط:
لقد حاولت أرنت ربط نشاط التفكير بقدرتنا على الحكم، ومن المؤكد أنّ هذا الارتباط بين التفكير والحكم يبدو أنّه يعمل فقط في حالات الطوارئ، وفي تلك اللحظات الاستثنائية حيث يتعين على الأفراد الذين يواجهون انهيار المعايير التقليدية، وأن يبتكروا معايير جديدة ويحكمون وفقًا لقيمهم المستقلة، ومع ذلك هناك وجهة نظر ثانية أكثر تفصيلاً للحكم لا تقتصر على لحظات الأزمة، ولكنها تحدده بالقدرة على التفكير بشكل تمثيلي أي من وجهة نظر أي شخص آخر.
لقد وصفت أرنت هذه القدرة على التفكير التمثيلي بالعقلية المتضخمة، حيث تتبنى نفس المصطلحات التي استخدمها كانط في نقده الثالث لوصف الحكم الجمالي، ولا بد أنّه يجب علينا الآن أن نوجه انتباهنا إلى هذا العمل حيث أنّ أرنت أسست نظريتها في الحكم السياسي على جماليات كانط بدلاً من فلسفته الأخلاقية.
للوهلة الأولى قد يبدو هذا خيارًا محيرًا، وذلك لأنّ كانط نفسه أسس فلسفته الأخلاقية والسياسية على العقل العملي وليس على كلياتنا الجمالية، ومع ذلك ادعت أرندت أنّ نقد الحكم احتوى على فلسفة كانط السياسية غير المكتوبة، وكذلك أنّ الجزء الأول منه (نقد الحكم الجمالي) كان أكثر الأسس إثمارًا لبناء نظرية للحكم السياسي، من حيث أنّه تناول مع عالم المظاهر من وجهة نظر المتفرج المحكم واتخذت كنقطة انطلاقها ملكة الذوق، التي تُفهم على أنّها كلية من الموضوعات الملموسة والمتجسدة.
بالنسبة لأرنت فإنّ القدرة على الحكم هي قدرة سياسية على وجه التحديد من حيث أنّها تمكن الأفراد من توجيه أنفسهم في المجال العام، والحكم على الظواهر التي يتم الكشف عنها داخله من وجهة نظر منفصلة وغير متحيزة نسبيًا، وتنسب الفضل إلى كانط في التخلص من التحيز القائل بأنّ أحكام الذوق تكمن تمامًا خارج المجال السياسي، حيث من المفترض أنّها تتعلق فقط بالمسائل الجمالية.
كما إنّها تعتقد في الواقع أنّه من خلال ربط الذوق بتلك الطريقة الأوسع في التفكير التي أطلق عليها كانط العقلية الموسعة، فإنّ الطريق قد فتح لإعادة تقييم الحكم باعتباره قدرة سياسية محددة، أي القدرة على التفكير في مكان كل شخص آخر، وفقط في نقد الحكم لكانط نجد تصورًا للحكم على أنّه القدرة على التعامل مع التفاصيل في خصوصيتها، أي دون تصنيفها ضمن عام مُعطى مسبقًا ولكننا نبحث بنشاط عن العام خارج الخاص.
صاغ كانط هذا التمييز على أنّه التمييز بين الأحكام الحاسمة والانعكاسية، وبالنسبة له فإنّ الحكم بشكل عام هو ملكة التفكير في الخاص كما هو وارد تحت العام، وإذا تم إعطاء العام بمعنى القاعدة أو المبدأ أو القانون فإنّ الحكم الذي يشمل الخاص تحته يكون محددًا، ومع ذلك إذا تم إعطاء الخاص فقط ووجدت العالمية له فإنّ الحكم يكون انعكاسًا، وبالنسبة إلى كانط كانت الأحكام المحددة معرفية بينما كانت الأحكام العاكسة غير معرفية.
يُنظر إلى الحكم التأملي على أنّه القدرة على الصعود من الخاص إلى العام دون وساطة من المفاهيم المحددة المقدمة مسبقًا، حيث إنّه التفكير في التفاصيل في علاقتها بالعام بدلاً من التفكير حول المسلمات في علاقتها بالخاص.
في حالة الحكم الجمالي هذا يعني أنّه لا يمكن للمرء أن يفهم ويطبق المسند العام للجمال إلّا من خلال تجربة موضوع معين يمثله، وهكذا عند مواجهة زهرة أو منظر طبيعي فريد أو لوحة معينة يمكن للمرء أن يقول إنّه مثال للجمال وأنّه يمتلك صلاحية مثالية.
بالنسبة لأرنت لا يقتصر مفهوم الصلاحية النموذجية على الأشياء الجمالية أو الأفراد الذين يمثلون فضائل معينة، وبدلاً من ذلك تريد توسيع هذا المفهوم ليشمل أحداثًا في الماضي تحمل معنى يتجاوز تشريعاتها المطلقة، أي الأحداث التي يمكن اعتبارها نموذجية لأولئك الذين جاءوا بعد ذلك، وهنا ينضم الحكم الجمالي إلى الحكم الرجعي للمؤرخ.
الثورتان الأمريكية والفرنسية ولجنة ثورية باريسية والسوفيتات الروسية والمجالس الثورية الألمانية من عام 1918 إلى عام 1919 والانتفاضة المجرية عام 1956، فكل هذه الأحداث تمتلك نوعًا من الصلاحية النموذجية التي تجعلها ذات أهمية عالمية وذلك مع الحفاظ على خصوصيتها وتفردها، وهكذا من خلال حضور هذه الأحداث في خصوصيتها يمكن للمؤرخ أو المتفرج الحاكم إلقاء الضوء على أهميتها العالمية وبالتالي الحفاظ عليها كأمثلة للأجيال القادمة.
ملكات الحكم الأساسية:
بالنسبة لأرنت فإنّ المتفرجين هم من يتمتعون بامتياز الحكم بنزاهة وعدم مبالاة، وفي القيام بذلك يمارسون مِلكتين أساسيتين وهما :
1- الخيال:
فالخيال هو ملكة التمثيل في ذهن المرء لما ظهر بالفعل للحواس، ومن خلال الخيال يمكن للمرء أن يمثل الأشياء التي لم تعد موجودة وبالتالي تحديد المسافة اللازمة لحكم محايد، وبمجرد حدوث هذا التباعد يصبح المرء في وضع يمكنه من التفكير في هذه التمثيلات من عدد من وجهات النظر المختلفة، وبالتالي الوصول إلى حكم حول القيمة المناسبة للكائن.
2- الحس السليم:
أمّا القوة الأخرى التي يجب على المتفرجين اللجوء إليها هي الفطرة السليمة أو الحس المشترك، وذلك لأنّه بدونها لا يمكنهم مشاركة أحكامهم أو التغلب على خصوصياتهم الفردية، فقد اعتقد كانط أنّه لكي تكون أحكامنا صحيحة، كما يجب علينا تجاوز شروطنا الخاصة أو الذاتية لصالح الشروط العامة والذاتية، ونحن قادرون على القيام بذلك من خلال مناشدة إحساسنا المجتمعي وحسنّا المشترك.
إذن فإنّ معيار الحكم هو قابلية التواصل، والمعيار لتقرير ما إذا كانت أحكامنا قابلة للتواصل حقًا هو معرفة ما إذا كانت تتناسب مع الشعور الجماعي للآخرين، وتشير أرنت إلى أنّ التركيز على قابلية أحكام الذوق للتواصل والمفهوم المترابط للعقلية الموسعة، بحيث يرتبطان دون عناء بفكرة كانط عن وجود إنسانية موحدة تعيش في سلام أبدي.
كما تجادل بأنّه بحكم هذه الفكرة عن الجنس البشري الموجودة في كل إنسان، كما أنّ الرجال هم بشر ويمكن تسميتهم متحضرين أو إنسانيين لدرجة أنّ هذه الفكرة تصبح ليس فقط مبدأ أحكامهم ولكن أجراءات، وفي هذه المرحلة يتحد الممثل والمتفرج من حيث مقولة الفاعل والحكم (المعيار) الذي بموجبه يحكم المتفرج على مشهد العالم ويصبح واحدًا، ففي تأملاتها حول النقد الثالث لكانط تعترف أرنت بالروابط بين وجهة نظر الممثل ووجهة نظر المتفرج.