عادت الفيلسوفة حنة أرنت إلى القضية الحكم في كتابها حياة العقل وهو عمل كان من المفترض أن يشمل الملكات الثلاث للتفكير والإرادة والحكم، ففي مقدمة المجلد الأول أعلنت ما يلي:
1- الدافع الفوري لكتابتها جاء من حضور محاكمة أيخمان في القدس.
2- بينما كان الدافع الثاني هو تقديم وصف لأنشطتنا العقلية التي كانت مفقودة من عملها السابق على (vita activa).
كان غياب أيخمان للتفكير (عدم تفكيره) هو أكثر ما أثار دهشتها، لأنّه كان مسؤولاً في نظرها عن عدم قدرته على الحكم في تلك الظروف التي يكون فيها الحكم في أمس الحاجة إليه.
علاقة التفكير بالحكم في فلسفة أرندت:
حاولت أرنت الرد من خلال ربط نشاط التفكير بنشاط الحكم بطريقة مزدوجة وهي:
1- التفكير أي الحوار الصامت بينيها وبين نفسها يذيب عاداتنا الثابتة في التفكير وقواعد السلوك المقبولة، وبالتالي يمهد الطريق لنشاط الحكم على التفاصيل دون مساعدة المسلمات المحددة مسبقًا.
لا يعني ذلك أنّ التفكير يوفر الحكم بقواعد جديدة لتصنيف الخاص تحت العام، وبدلاً من ذلك فإنّه يخفف قبضة العام على الخاص، وبالتالي يطلق الحكم من فئات الفكر المتحجرة والمعايير التقليدية للتقييم.
في أوقات الأزمات التاريخية يتوقف التفكير عن كونه شأنًا هامشيًا، لأنّه من خلال تقويض جميع المعايير والقيم المحددة، فإنّه يهيئ الفرد للحكم بنفسه بدلاً من الانجراف بأفعال وآراء الأغلبية.
2- الطريقة الثانية التي تربط بها أرنت بين نشاط التفكير ونشاط الحكم، هي من خلال إظهار أنّ التفكير من خلال تحقيق الحوار بينها وبين نفسها، والذي يُعطى في الوعي وينتج الضمير كمنتج ثانوي.
وهو ما أطلق عليه المفكرون فيما بعد التجويف الطبيعي (lumen naturale)، ولا يعطي وصفات إيجابية حيث إنّه يخبرنا فقط بما لا يجب فعله، وما يجب تجنبه في أفعالنا وتعاملاتنا مع الآخرين، وكذلك ما يجب أن نتوب عنه.
تلاحظ أرنت في هذا السياق أنّ مقولة سقراط: “من الأفضل أن تعاني من الخطأ بدلاً من أن ترتكب خطأ”، تستمد صحتها من فكرة أنّ هناك شريكًا صامتًا داخل أنفسنا نقدم له الحساب من أفعالنا، وأكثر ما نخشاه هو توقع وجود هذا الشريك (أي ضميرنا) الذي ينتظرنا في نهاية اليوم.
تشير أرنت أيضًا إلى أنّ التفكير باعتباره تحقيقًا للاختلاف المعطى في الوعي ليس امتيازًا للقلة، ولكنه قوة حاضرة دائمًا في الجميع، وعلى نفس المنوال فإنّ عدم القدرة على التفكير ليس فشلًا للكثيرين ممن يفتقرون إلى قوة الدماغ، ولكنه احتمال دائم للجميع.
لكن بالنسبة لأولئك الذين ينخرطون في التفكير، يظهر الضمير كمنتج ثانوي لا مفر منه، وكأثر جانبي للتفكير وللضمير نظيره في الحكم على أنّه نتيجة ثانوية للنشاط التحريري للفكر، وإذا كان الضمير يمثل الفحص الداخلي الذي نقيم من خلاله أفعالنا فإنّ الحكم يمثل المظهر الخارجي لقدرتنا على التفكير النقدي.
تتعلق كلتا السلطتين بمسألة الصواب والخطأ، ولكن بينما يوجه الضمير الانتباه إلى الذات فإنّ الحكم يوجه الانتباه إلى العالم، وفي هذا الصدد يجعل الحكم ما تسميه أرندت تجليًا لرياح الفكر ممكنًا في مجال المظهر.
فلسفة أرنت في الحكم والقدرة السياسية:
قدمت أرنت نموذجًا للحكم في مقالات (الأزمة في الثقافة) و (الحقيقة والسياسة) والتي يمكن وصفها بأنّها سياسية أكثر بكثير من تلك المقدمة حتى الآن.
في هذه المقالات في الواقع تعاملت مع الحكم على أنّه هيئة تدريس تمكّن الفاعلين السياسيين من تحديد مسارات العمل التي يجب القيام بها في المجال العام، ونوع الأهداف الأكثر ملاءمة أو التي تستحق المتابعة، وكذلك على من يمدح أو يلوم على أفعال سابقة أو على عواقب قرارات سابقة.
في هذا النموذج يُنظر إلى الحكم على أنّه قدرة سياسية على وجه التحديد، أي على أنّه القدرة على رؤية الأشياء ليس فقط من وجهة نظر المرء ولكن من منظور كل من تصادف وجوده، وعلى أنّه واحد من القدرات الأساسية للإنسان ككائن سياسي بقدر ما تمكنه من توجيه نفسه في المجال العام وفي العالم المشترك.
تدعي أرنت أنّ الإغريق أطلقوا على هذه القدرة (للحكم) على التأليف الصوتي أو البصيرة، وقد اعتبروها الفضيلة أو الامتياز الأساسي لرجل الدولة تميزًا عن حكمة الفيلسوف، ويكمن الاختلاف بين هذه البصيرة الحاكمة والفكر التأملي في أنّ الأول له جذوره فيما نسميه عادة الفطرة السليمة والتي تتجاوز هذه الأخيرة باستمرار.
الفطرة السليمة تكشف لنا طبيعة العالم بقدر ما هو عالم مشترك، حيث نحن مدينون لها بحقيقة أنّ حواسنا الخمس الخاصة والذاتية وبياناتهم الحسية يمكن أن تتكيف مع عالم غير شخصي وموضوعي نشترك فيه مع الآخرين، وإنّ الحكم هو أحد الأنشطة المهم إن لم يكن أهمها، والتي يتم من خلالها تحقيق مشاركة العالم مع الآخرين.
علاوة على ذلك عند مناقشة الطابع غير القسري للحكم، وحقيقة أنّه لا يمكن إلّا أن يستأنف موافقة الآخرين دون أن يفرضها أبدًا، تدعي أنّ هذا التودد أو الإقناع يتوافق بشكل وثيق مع ما أسماه الإغريق (peithein)، أي المقنع و إقناع الكلام الذي اعتبروه الشكل السياسي المعتاد للأشخاص الذين يتحدثون مع بعضهم البعض.
زعم بعض المعلقين أنّ هناك تناقضًا في استخدام أرنت لمفهوم أرسطو عن التأليف الصوتي جنبًا إلى جنب مع فكرة كانط عن (عقلية متضخمة)، حيث من المفترض أنّهم يسحبون في اتجاهين متعاكسين، فالأول تجاه الاهتمام بالخاص والأخير تجاه العالمية الحياد.
ومع ذلك فإنّ هذا التناقض أكثر وضوحًا من كونه حقيقيًا، لأنّ نظرية كانط للحكم الجمالي هي نظرية للحكم التأملي، أي عن تلك الأحكام حيث لا يتم إعطاء العام ولكن يجب البحث عنه خارج المعين.
في هذا الصدد فإنّ نظرية الحكم الجمالي التي تعد نداءات أرنت لها صلات وثيقة مع فكرة أرسطو عن التأليف اللغوي، فكلاهما معني بالحكم على التفاصيل باعتبارها تفاصيل وليس مع إدراجها تحت قواعد عالمية.
إذا كان هناك تمييز فإنّ الأمر يتعلق أكثر بنمط تأكيد الصلاحية، ففي تأليف أرسطو هو امتياز لعدد قليل من الأفراد ذوي الخبرة (الفرونيموي) الذين بمرور الوقت أظهروا أنفسهم حكماء في الأمور العملية، حيث المعيار الوحيد للصحة هو خبرتهم وسجلهم السابق لأفعال القضاء.
وفي حالة أحكام الذوق من ناحية أخرى يتعين على الأفراد استئناف أحكام وآراء الآخرين، وبالتالي فإنّ صحة أحكامهم تعتمد على الموافقة التي يمكنهم الحصول عليها من مجتمع ذي موضوعات مختلفة.
بالنسبة إلى أرنت تعتمد صلاحية الحكم السياسي على قدرتنا على التفكير بشكل تمثيلي، أي من وجهة نظر أي شخص آخر حتى نتمكن من النظر إلى العالم من عدد من وجهات النظر المختلفة، وهذه القدرة بدورها لا يمكن اكتسابها واختبارها إلّا في منتدى عام حيث تتاح للأفراد الفرصة لتبادل آرائهم حول مسائل معينة ومعرفة ما إذا كانوا يتفقون مع آراء الآخرين.
في هذا الصدد فإنّ عملية تكوين الرأي ليست نشاطًا فرديًا على الإطلاق، وبدلاً من ذلك يتطلب لقاءً حقيقيًا مع آراء مختلفة بحيث يمكن فحص قضية معينة من كل وجهة نظر ممكنة.
إنّ النقاش والمناقشة والقدرة على توسيع منظور المرء أمر حاسم بالفعل في تكوين الآراء التي يمكن أن تدعي أكثر من مجرد الصلاحية الذاتية، وقد يكون للأفراد آراء شخصية حول العديد من الموضوعات، ولكن لا يمكنهم تكوين آراء تمثيلية إلّا من خلال توسيع وجهة نظرهم لتضمين آراء الآخرين.
كما لا يكون المرء وحيدًا أبدًا أثناء تكوين الرأي فكما تلاحظ أرندت: “حتى لو كنت أتجنب الرفقة أو كنت منعزلًا تمامًا أثناء تكوين رأي، فأنا لست مع نفسي فقط في عزلة الفكر الفلسفي، وما زلت في هذا العالم من الاعتماد المتبادل العالمي، حيث يمكنني أن أجعل نفسي ممثلاً لأي شخص آخر”.