اقرأ في هذا المقال
يظهر الشك كأسلوب منظم للتفكير في العصور اليونانية القديمة في فترة ما بعد أرسطو، وهناك نوعان من التقاليد أو الحركات المتميزة للفكر المتشكك وهما: البيرونية والأكاديمية، حيث إنّ السمة المميزة للشك اليوناني الروماني القديم في كلا التقليدين هي تعليق الحكم الناجم عن تجاور وجهات نظر متعارضة مقنعة بنفس القدر حول أي مسألة معينة، وفي النسخة البيرونية وليس النسخة الأكاديمية يُزعم أنّ هذا له فائدة عملية وهي هدوء أو (ataraxia)، ومع ذلك في كلا التقليدين لا يُفهم الشك على أنّه مجرد موضوع للتفكير النظري ولكن كشيء يجب أن نعيشه.
الفلسفة الشكوكية لدى فيلو وأنطيوكس:
وفقًا للفيلسوف سكستوس إمبيريكوس (Sextus Empiricus) يقسم معظم الناس الأكاديمية إلى ثلاث فترات وهي:
1- الفترة الأولى المسماة بالأكاديمية القديمة وهي أفلاطون.
2- الفترة الثانية وهي فترة الأكاديمية الوسطى في أركسيلاوس.
3- الفترة الثالثة هي أكاديمية كارنيديس الجديدة، ولكنه يلاحظ أنّ البعض أضاف أيضًا أكاديمية رابعة وهي أكاديمية فيلو وأكاديمية خامسة هي أكاديمية أنطيوكس.
لقد كان فيلو رئيسًا للأكاديمية من حوالي عام 110 إلى عام 79 قبل الميلاد، وقد تم تسجيل تفسيره للشك الأكاديمي باعتباره شكلاً مخففًا يسمح بالموافقة المبدئية على وجهة النظر التي نجت من التدقيق الديالكتيكي، وفحصه في أكاديمية شيشرون وفي النسخة السابقة من حوار لوكولوس، حيث إنّ لوكولوس هو مجرد واحد من الكتابين اللذين يشكلان النسخة السابقة، والكتاب الثاني المفقود الآن كان يسمى كاتولوس على اسم أحد المتحدثين الرئيسيين.
قام شيشرون في وقت لاحق بمراجعة هذه الكتب وقسمها إلى أربعة، ولكن فقط جزء من الجزء الأول من هؤلاء الأربعة ما يشار إليه عادةً باسم الأكاديمية اللاحقة (Academica posteriora) قد نجا، ومع ذلك يتوفر ما يكفي من هذه الكتب للحصول على فكرة جيدة عن العمل بأكمله.
من الواضح أنّ الفيسلوف فيلو ادعى أنّ بعض الانطباعات الحسية قد تكون صحيحة ولكننا مع ذلك لا نملك طريقة موثوقة لتحديد أي منها، وبالمثل ينسب سكستوس إمبيريكوس إلى فيلو وجهة النظر القائلة بأنّه بقدر ما يتعلق الأمر بالمعيار الرواقي أي المظهر المتخوف أو الانطباع الحافز (kataleptic impression) فإنّ الأشياء غير مفهومة، ولكن فيما يتعلق بطبيعة الأشياء نفسها فهي مفهومة.
ربما يكون قد أدلى بهذه الملاحظات من أجل ضمان الممارسة الأكاديمية لقبول بعض الآراء على أنّها تشبه الحقيقة، وذلك لأنه يجب أن يكون هناك بعض الحقيقة في المقام الأول -حتى لو لم يكن لدينا إمكانية الوصول إليها- حتى يكون هناك شيء يشبهها.
تحت ضغط الاعتراضات الرواقية على نظريته المعرفية الخاطئة على ما يبدو قام فيلو ببعض الابتكارات المثيرة للجدل في الفلسفة الأكاديمية، ويشير شيشرون إلى هذه الابتكارات لكنه لم يناقشها بأي تفاصيل ولم يقبلها بنفسه، مفضلاً وجهة نظر فيلو السابقة للأكاديمية والممارسات الديالكتيكية لكارنيديس، وربما كان ابتكار فيلو هو إلزام نفسه بالادعاء الميتافيزيقي بأنّ بعض الانطباعات صحيحة بالفعل من خلال تقديم حجج لهذا الغرض.
لذلك بدلاً من الاعتماد على احتمال أن تكون بعض الانطباعات صحيحة ربما سعى إلى إثبات ذلك بشكل أكثر حزماً، وثم ربما يكون قد خفض مستوى المعرفة بالتخلي عن المطلب الداخلي بأن يكون المرء قادرًا على تحديد الانطباعات الصحيحة وتبني بدلاً من ذلك الموقف الخارجي القائل بأنّ مجرد امتلاك انطباعات حقيقية، طالما أنّ لديهم التاريخ السببي الصحيح يكفي لواحد لديه المعرفة.
بعد فيلو قاد أنطيوخس (حوالي عام 130 إلى عام 68 قبل الميلاد) الأكاديمية بلا ريب إلى شكل من أشكال الدوغمائية، ولقد ادّعى أنّ الرواقيين والمتجولين قد فهموا أفلاطون بشكل أكثر دقة وبالتالي سعى إلى إحياء هذه الآراء، بما في ذلك في المقام الأول نظرية المعرفة والأخلاقالرواقية في أكاديميته.
الفلسفة الشكوكية لدى شيشرون:
انتقلت الفلسفة والبلاغة اليونانية بالكامل إلى اللاتينية لأول مرة في خطب ورسائل ومحاورات شيشرون (ولد في عام 106 وتوفي عام 43 قبل الميلاد) وهو أعظم خطيب في أواخر الجمهورية الرومانية، وقد كان شيشرون محاميًا لامعًا وأول من حصل على منصب روماني في عائلته.
وقد كان أحد الشخصيات السياسية البارزة في عصر يوليوس قيصر وبومبي ومارك أنتوني وأوكتافيان، وشهدت سلسلة من التحالفات الخاطئة نفيه وقتله في النهاية ولكن كتابات شيشرون بالكاد تضاءل تأثيرها على مر القرون، ومن خلاله اكتشف مفكرو عصر النهضة والتنوير ثروات البلاغة والفلسفة الكلاسيكيين.
كان شيشرون طالبًا طوال حياته وممارسًا للفلسفة الأكاديمية وكانت حواراته الفلسفية من بين أغنى مصادر المعلومات حول الأكاديمية المتشككة، وعلى الرغم من أنّه يدعي أنّه مجرد مراسل لآراء الفلاسفة الآخرين فقد واجه بعض المشاكل في ترتيب هذه الآراء في شكل حوار.
الأهم من ذلك في تقديم كلماته الخاصة للتعبير عنها، وفي بعض الحالات صاغ الكلمات التي يحتاجها وبالتالي قام بتدريس الفلسفة للتحدث باللاتيني، ولقد تركت عملاته الفلسفية بصمة دائمة على الفلسفة الغربي، على سبيل المثال فلسفته في مفاهيم مثل الجوهر (essentia) والجودة (Qualitas) والسعادة (beatitudo).
لا يُعتبر شيشرون بشكل عام مفكرًا أصليًا ولكن من الصعب تحديد مدى صحة ذلك نظرًا لأنّه لم ينج عمليًا أي من الكتب التي اعتمد عليها، وبالتالي لا نعرف مقدار أو ما إذا كان قد قام بتعديل وجهات النظر قدم، ومع ذلك وعلى الرغم من أسئلة الأصالة فإنّ حواراته تعبر عن نظرة إنسانية وذكية للحياة، ويزعم بلوتارخ في سيرته الذاتية أنّ شيشرون كثيرًا ما طلب من أصدقائه أن يطلقوا عليه اسم فيلسوف لأنّه اختار الفلسفة كعمله، لكنه استخدم فقط الخطابة لتحقيق أهدافه السياسية.
فلسفة الشك والحياة المفحوصة:
السمة الموحدة لأصناف الشكوك القديمة هي أنّها كلها معنية بالترويج بطريقة ما من الكلام لفوائد التعرف على قيودنا المعرفية، وهكذا فإنّ المشككين القدامى لديهم دائمًا ما يقولونه حول كيف يمكن للمرء أن يعيش، وفي الواقع يعيش بشكل جيد في غياب المعرفة.
يجب أن يُنظر إلى عدم الخطأ الذي نشأ في أكاديمية أفلاطون في ضوء ذلك، وبدلاً من التخلي عن الفوائد المحتملة لامتحان يهدف إلى اكتساب معتقدات أفضل، وقد اختار الأكاديميون اللاحقون معيارًا أقل طموحًا ومعيار يمنحهم مجرد معتقدات موثوقة، ومع ذلك فقد حافظوا على موقف متشكك تمامًا تجاه إمكانية تحقيق اليقين ولكن دون الادعاء باستبعاده بشكل قاطع.
تشير الشكوكية الأكثر جذرية التي نجدها في الخطوط العريضة لبيرونية من الفيلسوف سكستوس إمبيريكوس إلى تحرك في اتجاه مختلف، وبدلاً من شرح كيف ولماذا يجب أن نثق في توظيف العقل المتشكك يتجنب سكستوس المشكلة تمامًا عن طريق رفض الإجابة في الواقع، وبدلاً من ذلك يقترح أن ننظر في الأسباب الداعمة لبعض الإجابات المعينة والأسباب المتعارضة وفقًا للقدرة المتشككة حتى نتمكن من استعادة الهدوء.