فلسفة المثالية المعرفية لدى الفيلسوف ميل

اقرأ في هذا المقال


يرى ميل أنّ جزءًا كبيرًا مما يبدو أنّ الملاحظة هو في الحقيقة استنتاج، والمحتوى الخام للتجربة في حد ذاته ضيق للغاية، وفي الواقع كما يقول ميل: “نحن ندرك بشكل مباشر فقط انطباعاتنا الداخلية، فمن حواسي ليس لدي سوى الأحاسيس“، والادعاء قوي أنّ ما هو موجود مباشرة للعقل ليس أشياء خارجية ولكن فقط مجموعة من المظاهر، ولدينا وصول غير وسيط فقط إلى الانطباع الذي يتم إنشاؤه فينا، فنحن ندرك بشكل مباشر فقط المحتوى العقلي الخاص بنا.

فلسفة ميل في نسبية المعرفة البشرية:

نحن نعرف الأشياء في العالم فقط إلى الحد الذي تؤثر فيه علينا وتؤدي إلى ظهور انطباعات واعية، ولن يتم تقديم مثل هذه الانطباعات إلّا من خلال ملكات الحس الوسيط، حيث يدعي ميل أنّه لا يمكننا معرفة أي شيء عن الأشياء في حد ذاتها، ولكن فقط كما تظهر لنا ويطلق على هذا الموقف نسبية المعرفة البشرية، فجميع السمات التي ننسبها إلى الأشياء تتمثل في امتلاكها قوة لإثارة نوع أو آخر من الإحساس في أذهاننا ومعرفتنا بالأشياء، ولا تتكون من أي شيء سوى الأحاسيس التي إثارة.

إنّ ارتباطنا النظري بالعالم تتم دائمًا بوساطة كلياتنا التكييفية، وعلى هذا النحو فإنّ تمثيلاتنا للعالم هي دائمًا تمثيلات لما هو عليه العالم بالنسبة لكائنات مثل أنفسنا، ويسمي ميل هذه الرؤية بأنّها: “ذات قدر وأهمية كبيرة، والتي تؤثر في الشخصية وعلى طريقة التفكير الفلسفي الكاملة لمن يستقبلها، بحيث تدفع العقيدة في النهاية بميل نحو المثالية.”

قد يعتقد المرء أنّه على الرغم من أننا مألوفون فقط في تجربة الانطباعات الذهنية إلّا أنّه يمكننا مع ذلك استنتاج وجود أشياء غير عقلية تكمن وراء مثل هذه الأشياء العقلية، ولكن مثل هذا الاستنتاج لا يمكن دعمه في التجربة عن طريق الاستقراء العددي، ولا توجد أشياء غير عقلية تُلاحظ أبدًا خلف الأشياء العقلية، ولكن فقط من خلال فرضية لكيان غير مرصود.

ومع ذلك يرفض ميل طريقة الفرضية كشكل مستقل من التفكير، ولا يمكن أن يكون مثل هذا الاستدلال على الأشياء غير العقلية غير المرصودة صحيحًا بالنسبة له، ويُجبر ميل على الاستنتاج بأنّه لا يوجد ما يبرر الإيمان بالكيانات غير العقلية، وكل ما يمكن إثباته بشكل استقرائي هو أنّ فئة معينة من الأشياء ذات الإحساس مستقرة، بحيث يمكن إعادتها إليها بعد الفترات التي لا يتم تصورها خلالها، ويعتقد ميل أنّ هذا هو المحتوى الحقيقي لمفهومنا عن العالم الخارجي.

مفهوم المادة لدى فلسفة ميل:

المادة إذن يمكن تعريفها إمكانية دائمة للإحساس، وإذا يمكن أن نؤمن بالمادة؟ إذن السؤال هنا هل يقبل السائل هذا التعريف لها؟ وإذا فعل فأن الفرد يؤمن بالمادة وكذلك يفعل كل البركليين (Berkeleians)، بأي معنى آخر غير هذا لا بد أن الفرد لا يفعل.

وفكرة العالم الخارجي ليست موجودة في محتوى التجربة، وبدلاً من ذلك فإن فكرة الفرد عن العوامل الخارجية مستمدة من إدراك إمكانية إعادة النظر في بعض الأحاسيس، هذا على الرغم من أنّ الفرد توقف عن رؤيته، فيعتقد أنّه عندما يضع نفسه مرة أخرى في الظروف التي شعر فيها بهذه الأحاسيس سيحصل عليها مرة أخرى، وعلاوة على ذلك لا توجد لحظة تدخل لم يكن هذا هو الحال فيها.

استنفد الفرد فكرته عن المادة بفكرة أنّه شيء يوجد عندما لا نفكر فيه، بحيث التي كانت موجودة من قبل كان الفرد قد فكر بها وستكون موجودة إذا تدمر، لكن المادة المصممة على هذا النحو، وليست متميزة جوهريًا عن الإحساس نفسه، وما إذا كان هذا الموقف متماسكًا تمامًا.

دور العقل حول نسبية المعرفة في فلسفة ميل:

يمتد ادعاء ميل حول نسبية المعرفة إلى معرفتنا بالعقل نفسه، بحيث وضح أن: “معرفتك بالعقل مثلها في ذلك مثل المادة، فهي معرفة نسبية تمامًا، وليس لدينا تصور للعقل نفسه كما يختلف عن مظاهره الواعية”، ويدعي ميل أننا نعرف أنفسنا فقط كما تظهر لنا بشكل ظاهري، ولا نعرف أنفسنا إلّا من خلال الاستدلال من حالتنا.

ويرفض ميل النظرية العامة للعقل باعتبارها مادة تسمى، ولكنه يقاوم أيضًا الاختزال التام للعقل في وجود الأحاسيس أو حتى في وجود الأحاسيس المحتملة، على أساس أنّه لا تزال هناك وحدة للإدراك، وكما يشير فإنّ اختزال الذات في الأحاسيس لا يمكن أن يكون مرضيًا تمامًا، لأنّ الإحساس بالذات يدخل في العديد من الأحاسيس كجزء أساسي، وعندما أتذكر ذكرى على سبيل المثال فإنّ الإحساس هو ذاكرة يكون جزء من محتواها بأنّها ذاكرتي.

لذلك إذا تحدثنا عن العقل كسلسلة من المشاعر فنحن ملزمون بإكمال البيان من خلال تسميته سلسلة من المشاعر التي تدرك نفسها على أنّها ماضية ومستقبلية، وتختزلنا إلى البديل المتمثل في الاعتقاد بأنّ العقل أو الأنا شيء مختلف عن أي سلسلة من المشاعر أو الاحتمالات المتعلقة بها، أو قبول التناقض أي أنّ شيئًا ما هو مجرد فرضية سابقة هو سلسلة من المشاعر تدرك نفسها كسلسلة.

فلسفة المثالية المعرفية لدى ميل:

ظاهريًا تكون دوافع ميل نحو المثالية معرفية، حيث لا يمكننا أبدًا تجربة أشياء غير عقلية بدون وسيط وبالتالي لا يمكن تبرير الإيمان بوجودها، ولكن الحجة تتعمق مما يشير إلى أنّه لا يمكننا حتى تخيل ما يمكن أن يكون عليه الإيمان بوجود أشياء غير عقلية، فالكائن الخيالي ليس سوى تصور مثل أننا قادرون على تكوين شيء من شأنه أن يؤثر على حواسنا، وفي الواقع يقترح ميل في بعض الأحيان نسخة دلالية للحجة، والتي من شأنها أن تثبت أنّ المعنى الحقيقي لكلماتنا – التي تحددها التجربة – يمنعنا من الإشارة إلى أي شيء يتجاوز التجربة.

لا شك أنّه سيكون من العبث الافتراض أنّ كلماتنا تستنفد إمكانيات الوجود، وقد يكون هناك أنماط لا حصر لها منها لا يمكن الوصول إليها من قبل كلياتنا، وبالتالي لا يمكننا تسميتها، ولكن لا ينبغي أن نتحدث عن أنماط الوجود هذه بأي من الأسماء التي نمتلكها، وهذه كلها غير قابلة للتطبيق لأنّها كلها تمثل أنماطًا معروفة للكينونة.

يجدر التأكيد على أنّ حجة ميل حول حدود الإدراك البشري لا تعتمد على حالتنا الحالية للمعرفة العلمية، أو في الواقع على ملكات الحس الخاصة التي نمتلكها، وحتى لو كانت لدينا قدرات حسية إضافية أو يمكننا أن ندرك بطرق جديدة، فكل المعرفة التي ستظل مجرد ظاهرة يجب أن يتم التوسط في الإدراك في أي مخلوق حساس من خلال طريقة ما من الإدراك، وحتى إذا توصلنا إلى امتلاك طرق جديدة للتعرف على العالم فلا ينبغي لنا أكثر من الوقت الحالي لمعرفة الأشياء كما هي في أنفسهم، وفي الواقع في فلسفة ميل فإنّه يدعي القول إنّ الخالق يعرف الأشياء كما هي في حد ذاتها، هو بمثابة ارتباك.


شارك المقالة: