العقيدة النهائية في فلسفة برادلي

اقرأ في هذا المقال


الاستنباط أو الاستدلال في فلسفة برادلي:

في الحجة من الطبعة الأولى وفي كتاب مبادئ المنطق يحاول فرانسيس هربرت برادلي أن يبعد تأثير أفكاره الميتافيزيقية عند العمل على المستوى الأدنى، وهذا لأمر محظوظ لأنّه يجعل مناقشة برادلي الثاقبة في كثير من الأحيان متاحة لعلماء المنطق الذين سيصابون بالفزع من الميتافيزيقيا، وبرادلي كما نعلم غير راضٍ تمامًا عن وجهة النظر السفلية حيث يشعر بأنّه مضطر للانتقال إلى موقع مختلف، حيث يمكن اكتشاف تأثير آرائه الميتافيزيقية.

ولم تكن هذه النظرية الصعبة مفهومة جيدًا لذا في الطبعة الثانية من مبادئ المنطق تضمن مجموعة من المقالات النهائية والتي كان يأمل أن تقدم عرضًا أوضح لآرائه النهائية.

فالكتاب الأصلي بدأ بالدينونة حيث تبدأ المقالات النهائية بالاستدلال الذي ينتقل إليه الآن إلى المركز: “كل استنتاج هو التطور الذاتي المثالي لشيء معين يتم اعتباره حقيقيًا”، ويحاول هذا التعريف تفسير الاستدلال دون استخدام مفهوم الحكم والذي سيتم شرحه لاحقًا كنوع من الاستدلال، وحتى العضو الثالث في الثالوث المنطقي الفكرة العامة منه مخفية جزئيًا تحت الغطاء باعتبارها (الشيء المعطى)، ويجب أن يكون الكائن المعطى مثالياً لأنّ هذا هو النوع الوحيد من الكيانات القادرة على التطوير الذاتي المثالي.

وقد كان من الممكن أن يكون تعريف برادلي للاستدلال أكثر وضوحًا إذا كان قد أوضحه على أنّه تطوير ذاتي مثالي لفكرة منطقية تعتبر حقيقية، ومع ذلك فإنّ مفهوم التطوير الذاتي المثالي يحتوي على مشكلة تمت مواجهتها من قبل، وإذا لم يكن هناك تغيير فلا يوجد استنتاج، ولكن إذا كان هناك تغيير فإنّ الاستدلال يتم تدميره.

ولا يستطيع برادلي أن يأخذ الخط المعتاد بأنّ انتقال الاستدلال من الحكم إلى الحكم صحيح، حيث طالما أنّ الحفاظ على الحقيقة مضمون، وسيكون هذا دائريًا لأنّه ينوي شرح الحكم من حيث الاستدلال، ويعتمد حل برادلي على الطبيعة المزدوجة للمرجع والتي تكون معتبرة في حد ذاتها وكجزء من كل منهجي، وهذا هو ما تدخل في إحالة المحتوى المثالي إلى الواقع.

وهذه الإشارة إلى الواقع المألوفة من حساب برادلي الأولي للحكم، والتي تبين الآن أنّها تعني : “اعتبارها حقيقية وذلك باعتبارها واحدة مع الواقع من الكون الحقيقي”، وهذه هي نقطة التي تؤخذ على أنّها حقيقية في التعريف الأصلي، وإنّ اعتبار المحتوى المثالي على أنّه حقيقي هو تعريفه بالواقع بقدر ما ينتمي إلى الواقع.

يمكننا الآن أن نفهم لماذا يستبدل برادلي الفكرة المنطقية بكائن معين في تعريفه الأولي، بحيث يمكن أن تكون الفكرة المنطقية جزءًا فقط من نظام الأفكار المنطقية ونظام فكري، فكائن معين كما يُفهم عادةً وكما يُفهم من وجهة نظر برادلي السفلية هو جزء من الكون الحقيقي، وإنّه فعل الحكم الذي يربط مجال الفكر بالعالم الحقيقي، حيث أنّه الحكم الذي ينبئ بفكرة منطقية للواقع أو لشيء ينتمي إلى الواقع.

وبدون حكم فإنّ الحركة الوحيدة الممكنة للفكر هي الحركة على طول تيار من الأفكار، والشيء الوحيد الأكثر واقعية من الفكرة المنطقية هو نظام كامل لكل الأفكار، وهنا يبدو أنّه قد وقعنا في براثن هيجل! حيث إنّ تبني مصطلح (موضوع معين) للإشارة إلى الأفكار المنطقية يجعل من الصعب استخدام نفس المصطلح لتقديم أفراد ملموسين يشكلون الكون.

يمكن توضيح حركة الاستدلال في الطريقة الديالكتيكية حيث نقوم بتوسيع محتوى معين من خلال التعرف على عدم اكتماله، والافتراض الصريح هو “وضع بعض المحتوى المميز المعروض علينا”، وضمنيًا هو “الواقع برمته ككامل منهجي مثالي” حيث: “كل عضو في هذا النظام يطور نفسه من خلال سلسلة من الإجماليات الأكثر شمولاً حتى يصبح ويحتوي على النظام بأكمله”.

وعندما أستخدم هذه الطريقة يكون كل شيء ضروريًا إلّا من أين أبدأ ومتى أتوقف، ولكن بالنسبة لبرادلي فإنّ مثل هذه الاستنتاجات ليست مرضية تمامًا أبدًا لأنّ أساسها ضمني وغير معروف إلى حد كبير.

يمضي برادلي في التفكير بشيء من التفصيل في عمليات أخرى مثل التحليل والتجريد والمقارنة، وإنّ مناقشته للحساب تثير اهتمامًا مفاجئًا لأنّ بناء سلسلة الأعداد الطبيعية يبدو أنّه يعطي معنى لمفهوم التطور الذاتي المثالي، ويطور كل رقم طبيعي نفسه من خلال الدالة اللاحقة لتقديم الرقم الذي يليه، فالرقم ثلاثة هو محتوى مثالي لأنّه خاصية عامة يتقاسمها جميع الأشخاص الثلاثة لذا يجب أن يكمن الانتقال إلى أربعة في مجال المثالية.

يتشكل تمثيل المكان والزمان من خلال عملية مماثلة تتضمن التطوير الذاتي المثالي لمكان أو وقت معين، وعلى الرّغم من أنّ هذه الأمثلة قد تلقي الضوء على المفهوم الغامض للتطور الذاتي المثالي إلّا أنّها لن تساعد في تفسير الاستدلال إذا لم يكن بناء خليفة أو وريث رقم طبيعي أو المكان والزمان اللذان يقعان وراء ما هو معطى استنتاجًا، ويعتبر الاستدلال عادة حركة فكرية من الحكم إلى إصدار الحكم، ومن الافتراض إلى الاستنتاج، وهذا ليس ما يحدث عندما نمد خطًا أو نشكل رقمًا جديدًا.

برادلي ومفهوم الحكم:

ومع ذلك لن يقبل برادلي هذا  لأنّه يعتبر الحكم نفسه نوعًا من الاستدلال بالمعنى الواسع، كما أنّه نوع من الاستدلال حيث لا يتم توضيح الأساس الذي يفرض الحكم، والاستدلال موجود حتى في أنقى حالات الحكم التحليلي للمعنى، كما يعيد برادلي صياغة الحكم (S) هي (P) بالشكل: “الحقيقة هي أنّ S هي P” وكلمة “مثل” هي العنصر النائب عن الأرض في الواقع التي تفرض الاستنتاج (S) هي (P) وذلك نظرًا لأنّ هذا الشرط غير محدد ولا يمكن تحديده تمامًا فإنّ البنية الاستنتاجية ضمنية فقط.

وهذا تغيير جذري تحت تأثير بوسانكيه (Bosanquet) من موقف برادلي الأصلي حيث يكمن الحكم في الواجهة بين المثالي والفعلي، وبين العام والخاص وبالتالي فهو يختلف عن الاستدلال الذي هو حركة داخل الفكر.

برادلي يدعم تغيير رأيه من خلال إعطاء مثال: “وذلك لنفترض أنّ أحد الأفراد اختبر على الفور (أ) على يمين (ب)، وبالتالي شكل الحكم بأنّ (أ) على يمين (ب) فمن المفترض أنّ هناك نوعًا من التفسير السببي للموضع النسبي لهذه الأشياء، واعتراض الفرد هو أنّ أي شرط من هذا القبيل لوجود حالة من الأمور ليس شرطًا للحقيقة للحكم المقابل، وسيكون شرطًا للحقيقة فقط إذا تمّ تضمينه في الحكم وهو ليس كذلك.

حتى لو كان الفرد مستعدًا للقول إنّ (أ) على يمين (ب) لأنّ جون وضعها هناك فإنّه من الطبيعي أن يكون (أ) على يمين (ب) وإذا وضعها جون هناك، فإنّ بيان الفرد قاطع وليس مشروطًا ويتأكد ويصر الفرد على أنّ (أ) على يمين (ب) حتى لو تبين أنّ جون ليس مسؤولاً.

الكائنان (أ) و (ب) اللذان يمثلان موضوعات خاصة لحكم الجمع يتم اختيارهما بالضرورة من عالمنا كله وربطهما بهما (من المفترض أنّ هذا هو كوننا لأنّه مرتبط بتجربتنا المباشرة)، ففي حكم فردي يكون الموضوع الخاص هو هذا الواقع وهو “ميزة خاصة ومركزة في الكتلة الكلية”، وكل هذه الموضوعات الخاصة مشروطة بما يكمن وراءها، حتى بدون التذرع بقانون السببية فإنّهم جميعًا مشروطون بوضعهم في المكان والزمان.

ويجادل برادلي بأنّه بما أنّ الموضوع الخاص للحكم يجب أن يكون مشروطًا حتى لو كانت شروطه غير معروفة فإنّ الحكم نفسه لا يمكن أن يكون غير مشروط، ولذلك يبقى الموضوع مشروطًا بما هو غير معروف وفقط على هذا الشرط المجهول وخاضع له يكون الحكم صحيحًا، وهذه الجملة تحدد صراحة شروط وجود الشيء مع شروط الحقيقة للحكم، وإذا رفضنا القيام بهذه القفزة فيمكننا أن نبقى مرتاحين في وجهة نظر برادلي الدنيا وتجاهل التعقيدات الغامضة والمحيرة للنظرية الباطنية.


شارك المقالة: