كان طريقتا الشكوكية في العصر الهيليني هما الشك الأكاديمي والشك البيروني، وإلى حد ما مثل المتشائمين فقد كان لكل متشكك رئيسي وجهة نظره في الشك، ومن ثم يصعب تصنيفهم جميعًا تحت تصنيف منظم.
النظرة العامة للفكر المتشكك:
ومع ذلك مثل المتشاؤمون أيضًا هناك بعض الخصائص التي يمكن إبرازها على الرغم من الاختلافات بين مفكرين معينين، فكلمة (Skepsis) تعني التحقيق ولكن المتشككين لم يسعوا للحصول على إجابات صلبة أو مطلقة كهدف من تحقيقهم، وبدلاً من ذلك كان الهدف من هذه الأسرار هو الهدوء والتحرر من الأحكام أو الآراء أو المطالبات المطلقة بالمعرفة، وقد شكّلت الشكوكية تحديًا لإمكانية وطبيعة المعرفة.
الشك الأكاديمي:
كان الباحث السادس (القائد) لأكاديمية أفلاطون هو أرسيسلاوس الذي ولد في عام 318 قبل الميلاد وتوفي في عام 243 قبل الميلاد، والذي بدأ تقليدًا جوهريًا من الشك في الأكاديمية استمر حتى القرن الأول قبل الميلاد، وقد وجد أرسيسلاوس مصدر إلهام لشكه في شخصية سقراط، وسوف يجادل أرسيسلاوس مع وضد أي موقف معين ويظهر في النهاية أنّه لا يمكن الوثوق بأي جانب من الحجة.
وجه شكوكه في المقام الأول نحو الرواقيين والأساس التجريبي لمطالباتهم بالمعرفة، و من المعلوم أنّه بالنسبة للرواقيين فإنّ استيعاب انطباعات الحس بالطريقة الصحيحة هو الأساس الحقيقي للمعرفة، وحجة أرسيسلاوس ضد التجريبية الرواقية ليست واضحة.
ولكن يبدو في النهاية أنّه وصل إلى الاستنتاج المقترح أعلاه، أي أننا لا نستطيع أبدًا التأكد من الطريقة التي أدركنا بها (حكمنا) على الكائن عبر الحواس صحيح أو خطأ، والحجة تعمل تقريبا على النحو التالي بحيث بالنسبة لأي عرض تقديمي لشيء ما إلى الحواس، ويمكننا أن نتخيل أنّه يمكن تقديم شيء آخر إلى الحواس بنفس الطريقة تمامًا، بحيث لا يستطيع المُدرك التمييز بين الكائنين المعروضين وهو ما اعتقد أرسيسلاوس أنّ الرواقيين سوف يمنحونه.
يمكن للمُدرك أن يقدم هذه الأشياء لنفسه عبر الحواس بطريقة صحيحة أو خاطئة وهو ما يمنحه الرواقيون أيضًا، ومن الممكن إذن أن يعتقد المدرك أنّ أحد العروض التقديمية صحيح والآخر خاطئ، ولكن ليس لديه طريقة للتمييز بين أي منهما، واستنتاج أرسيسلاوس هو أنّه يجب علينا دائمًا تعليق حكمنا.
يبدو أنّ كارنيديس الذي ولد في عام 213 ما قبل الميلاد والمتوفى في عام 129 قبل الميلاد، وهو الباحث العاشر في أكاديمية أفلاطون قد أجاب بذكاء على اعتراض نموذجي أثير ضد الشك، ومن غير المتسق كما يقول الاعتراض الإصرار على استحالة معرفة أي شيء (إدراك)، لأنّ هذه العبارة: “لا يمكن معرفة أي شيء” هي في حد ذاتها مطالبة بالمعرفة.
وقد أدرك كارناديس أنّه حتى الادعاء بأنّه لا يمكن معرفة أي شيء يجب أن يكون موضع شك، ومرة أخرى مثل أرسيسلاوس اعتمد كارناديس على تكتيك الشك النموذجي لتقديم الحجج المؤيدة والمعارضة لنفس الشيء والادعاء بأنّه لا يمكننا بالتالي الادعاء بأنّ أيًا من الجانبين على صواب.
الشك البيروني:
لا نعرف شيئًا مؤكدًا تقريبًا عن بيرهو من إليس الذي ولد في عام 360 والمتوفى في عام 270 قبل الميلاد، ولم يكتب شيئًا والذي ربما يكون علامة على شكوكه الشديدة، أي إذا لم نتمكن من معرفة أي شيء أو لا يمكننا التأكد ممّا إذا كانت المعرفة ممكنة فلا يمكن قول شيء نهائيًا وخاصةً في الكتابة.
ربما يكون أكثر ما يميز الشك البيروني عن الشك الأكاديمي هو اللامبالاة العميقة التي يُقصد من الشك البيروني توليدها، وينقل ديوجين لايرتيوس القصة التي تقول إنّه عندما سقط سيده أناكسارخوس في مستنقع ومر عليه بيرهو ببساطة وأثنى عليه أناكسارخوس لاحقًا بسبب اللامبالاة المطلقة، وتدحض الشكوكية البيرونية كل العقائد والآراء وتتشبث بشدة بعدم التحديد وحتى فكرة: “لا يمكن معرفة أي شيء”.
قدم انيسيديموس المتشكك البيروني الحجج (العشر طرق)، والتي تعالج الصعوبات النموذجية في الظهور والحكم، وكل منها يهدف إلى استنتاج أنّه يجب علينا تعليق الحكم إذا أردنا أن نكون في سلام.
كما يجادل الوضع الأول بأنّ الحيوانات الأخرى تشعر بالأشياء بشكل مختلف عن البشر، وبالتالي لا يمكننا التظاهر بإعطاء أي قيمة مطلقة للأشياء التي نشعر بها، ونظرًا لأنّ صفات الإحساس تختلف من نوع إلى نوع، على سبيل المثال: “يتغذى طائر السمان على نبات الشوكران السام وهو أمر قاتل للإنسان”، ويجب علينا تعليق الأحكام القيمية على هذه الأشياء.
في المثال المقتبس إذن من الواضح أنّ الشوكران ليس شريرًا في حد ذاته، ولكنه ليس جيدًا في حد ذاته ولكنه مسألة لا مبالاة، وتتبع الأنماط المتبقية نمطًا مشابهًا وتسلط الضوء على النسبية -سواء كانت ثقافية أو شخصية أو حسية أو نوعية أو كمية- كدليل على أنّه يجب علينا تعليق الحكم.
المتشككون كما يقول بيير هادوت يستخدمون الخطاب الفلسفي للقضاء على الخطاب الفلسفي، أي أنّهم لا يلتزمون بأي موقف فلسفي، بل يستخدمون أدوات الفلسفة لاكتساب شعور بالبساطة والهدوء في الحياة وبالتالي يتخلصون من الحاجة إلى الفلسفة، وباستخدام الديالكتيك ومعارضة حجة إلى أخرى يوقف المتشكك الحكم ولا يلتزم بأي موقف معين.
فالمتشكك في كل ما فعله كان يقصر نفسه على وصف ما اختبره دون إضافة أي شيء حول ماهية الأشياء أو قيمتها، وكان عليه أن يكتفي بوصف التمثيلات الحسية التي لديه، وأن يعلن حالة أجهزته الحسية دون إضافة رأيه إليها.
قد نتساءل فقط إلى أي مدى سيكون مثل هذا النهج في الحياة عمليًا، وهل يمكننا الازدهار أو التقدم أو التواصل بفعالية أو إيجاد علاجات للأمراض بمجرد وصف تجربتنا في العالم؟ على سبيل المثال يمكن أن تساعد المضادات الحيوية في كثير من الأحيان في علاج الأمراض الناتجة عن بكتيريا معينة، ولا يمكننا القول لأغراض عملية أننا نعلم أنّ هذا هو الحال؟ ولسنا جاهلين بعد كل شيء بحقيقة أنّ البكتيريا أصبحت مقاومة لبعض المضادات الحيوية، ولكن هذا لا يعني أنّها لا تعمل، أو أننا لا نستطيع يومًا ما إيجاد علاجات بديلة للعدوى البكتيرية.
يمكن أن يرد المتشكك بعدة طرق ولكن الرد الأكثر فعالية على المثال المقدم قد يكون شيئًا من هذا القبيل: الطب لا يجلب لنا المعرفة وإذا كانت المعرفة يقينًا، فالطب وما يدعي أنّه يعرفه بعد كل شيء تغير بشكل كبير، حيث إنّ ممارسة الطب هي مجرد طريقة أخرى لوصف الطريقة التي تتفاعل بها أجسام معينة مع أجسام أخرى في وقت ومكان معينين.
لكن المتشكك سيذهب أبعد من ذلك، وكان سيقول إنّ علاج المرض ليس جيدًا ولا سيئًا، وربما شفي مرضي وفي اليوم التالي قتلت بطريقة أخرى، وإذا كان الموت بسبب اللامبالاة فيجب أن يكون علاج المرض كذلك، ومرة أخرى قد نتساءل في هذه الحالة كيف يتم تحفيز المرء على العمل.