اقرأ في هذا المقال
بالنظر إلى فلسفة الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين (Giorgio Agamben) السياسية من النقد للمخيمات وحالة القانون التي تم الكشف عنها، وبالنظر إلى ذلك وليس على سبيل الحصر في الفضاء الاستثنائي لها فليس من المستغرب أن يتخذ أغامبين أقصى مظاهر لظروف المخيمات كنقطة انطلاق، حيث يشير إلى بلورة أخلاق دون الرجوع إلى القانون وهو مصطلح يؤخذ ليشمل الخطاب المعياري في مجمله.
فلسفة أغامبين في كتابه بقايا أوشفيتز:
في أحد أحدث كتبه بقايا أوشفيتز (Remnants of Auschwitz): الشاهد والأرشيف يتعامل الفيلسوف جورجيو أغامبين مع مشكلة سياسية وأخلاقية أساسية ظهرت في معسكرات الموت النازية، حيث الآثار المدمرة للسلطة على الإنسان.
فيجادل أغامبين بأنّ أوشفيتز والتي تمثل بالنسبة له رمزًا لحدث تاريخي فريد أطلق عليه اسم (Holocaust) أو المحرقة أو إبادة اليهود، وهو المكان الذي تتدهور فيه الطاقة تمامًا وتدمر البشر قبل إبادتهم، منتبهًا لتركيز ليفي على قضية كرامة الإنسان أو بالأحرى فقدان الكرامة.
ويركز أغامبين كثيرًا من تحليله على شخصية موسيلمان والذي كما يقول ليفي: “يلامس القاع”، أي فقد الوعي الواعي لنفسه وبيئته، والموسيلمان هو تصوير لشخص مشتت من جذوره ومشوش الذهن فقد وعيه بنفسه ككائن مفكر وحاسي، ولقد سقط تحت مستوى ما نعتبره إنسانًا وأصبح كتلة حيوية خاملة تقريبًا.
أخلاقية أغامبين:
بقايا أوشفيتز الذي نُشر باعتباره الجزء الثالث من سلسلة ولي تقي (Homo Sacer)، حيث يطور الفيلسوف أغامبين سردًا لأخلاقيات الشهادة كروح للشهادة على ما لا يمكن للمرء أن يشهد عليه، حيث أنّه يتناول مشكلة الشك فيما يتعلق بمعسكرات الاعتقال النازية في الحرب العالمية الثانية، والتي ناقشها أيضًا الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتارد (Jean-Francois Lyotard) وآخرون.
كما يلقي أغامبين بقايا الزهر كمحاولة للاستماع إلى ثغرة في شهادة الناجين، حيث تكون الحالة الواقعية للمعسكرات لا يمكن أن يتوافق مع ما يقال عنهم، ومع ذلك لا يهتم أغامبين بالقضايا المعرفية التي يثيرها عدم تطابق (الحقيقة والواقع)، بل بالأحرى بالآثار الأخلاقية التي يقترح أنّ عصرنا لم يحسب لها حسابًا بعد.
الشخصية الرئيسية في روايته لأخلاقيات الشهادة هي تلك الخاصة بموسلمان (Muselmann)، أو أولئك الموجودين في المخيمات الذين وصلوا إلى حالة من التدهور الجسدي والتجاهل الوجودي لدرجة أنّ المرء يتردد في تسميتهم بأحياء، كما يتردد المرء في تسمية موتهم بموتهم، ولكن بدلاً من رؤية موسلمان على أنّه الرقم الحدي بين الحياة والموت، ويقوم أغامبين بمجادلة بأنّ موسلمان يُفهم بشكل صحيح على أنّه الرقم المحدد للإنسان واللاإنساني.
لكن باعتباره العتبة الفاصلة بين الإنسان واللاإنساني لا يشير الموسلمان ببساطة إلى الحد الذي لا يصبح الإنسان بعده بشراً، ويجادل أغامبين في فلسفته هذه بأنّ مثل هذا الموقف لن يؤدي إلّا إلى تكرار تجربة أوشفيتز حيث يتم وضع موسلمان خارج حدود المكانة الإنسانية والأخلاقية التي تصاحب هذا التصنيف، وبدلاً من ذلك يشير موسيلمان إلى عدم تمييز أكثر جوهرية بين الإنساني واللا إنساني، حيث يستحيل فصل أحدهما عن الآخر بشكل نهائي، وفي هذا يدعو إلى التساؤل عن الفروق الأخلاقية التي تستند إلى هذا التعيين.
السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه لأغامببن إذن هو ما إذا كانت هناك في الواقع (إنسانية للإنسان)، بالإضافة إلى الانتماء البيولوجي للأنواع، وفي التأمل في هذا السؤال يطوّر أغامبين تفسيره الخاص للأخلاق، وفي هذا يرفض أغامبين اللجوء إلى المفاهيم الأخلاقية القياسية مثل الكرامة والاحترام مدعيًا أنّ: “أوشفيتز يمثل نهاية ودمار كل أخلاقيات الكرامة والامتثال لقاعدة موسلمان، فهو الحارس على عتبة أخلاق جديدة، وأخلاقيات شكل من أشكال الحياة تبدأ حيث تنتهي الكرامة”.
من أجل التوسع في أو على الأقل توفير (علامات) لهذا المجال الأخلاقي الجديد، يعود الفيلسوف أغامبين إلى تعريف الإنسان على أنّه الكائن الذي لديه لغة، بالإضافة إلى تحليلاته السابقة لديكسيس (deixis) والتي تشير إلى وظيفة أو استخدام الكلمات أو الأشكال أو التعبيرات الإلهية، لإخراج حركة مزدوجة في استيلاء الإنسان على اللغة، وفي تحليل ضمائر مثل (أنا) التي تسمح للمتحدث باستخدام اللغة يجادل أغامبين بأنّ الذاتية التي يتم إجراؤها في هذا التخصيص مشروط بنزع الذات بشكل متزامن وحتمي.
ونظرًا لأنّ الضمائر ليست سوى المحولات النحوية أو مؤشرات النطق بحيث لا تشير إلى شيء سوى حدوث اللغة نفسها، فإنّ تخصيص اللغة في تحديد الذات كموضوع ناطق يتطلب أن يمحو الفرد النفسي الجسدي في نفس الوقت أو يصف نفسه، وبالتالي ليست (الأنا) هي التي تتحدث ولا هي الفرد الحي وبدلاً من ذلك كما كتب أغامبين: “في الحاضر المطلق لحدث الخطاب تتزامن التخصيص والوصف في كل نقطة، ويكون كل من فرد اللحم والدم وموضوع النطق صامتين تمامًا”.
الأهم من ذلك يجادل أغامبين أنّ هذا بالضبط عدم مصادفة الكائن المتكلم والكائن الحي واستحالة الكلام المنكشف فيه هو الذي يوفر شرط إمكانية الشهادة، وهو يدعي أنّ الشهادة ممكنة فقط إذا لم يكن هناك تعبير بين الكائن الحي واللغة، وإذا كان ضمير (الأنا) معلقًا في هذا الفصل، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما يعنيه أغامبين بالشهادة ، لأنه من الواضح أنه لا يستخدم المصطلح بالمعنى القياسي لإعطاء سرد لحدث شهده المرء.
بدلاً من ذلك يجادل بأنّ ما هو على المحك في الشهادة هو الشهادة على ما لا يمكن قوله، أي الشهادة على استحالة الكلام وجعله يظهر في الكلام، وبهذه الطريقة يقترح الإنسان قادر على تحمل اللاإنساني، وبصورة أكثر عمومية لم تعد الشهادة تُفهم على أنّها ممارسة للكلام بل كروح تُفهم على أنّها مكان الإقامة الوحيد المناسب للموضوع.
التحريف الإضافي الذي يضيفه أغامبين هنا لتجنب فكرة العودة إلى المصداقية في الشهادة، هو تسليط الضوء على النقطة التي مفادها أنّه في حين أنّ الشهادة هي مكان الإقامة المناسب أو الاتساق الممكن فقط للموضوع، إلّا أنّها ليست شيئًا يمكن للموضوع ببساطة تفترض أنّها خاصة بها، وكما يشير تفسير الذات والوصف لا يمكن أن يكون هناك تخصيص بسيط للغة يسمح للموضوع بأن يتخذ نفسه كأساس للشهادة، ولا يمكنه ببساطة أن يدرك نفسه في الحديث، وبدلاً من ذلك تظل الشهادة إلى الأبد غير قابلة للحصر.
المسؤولية الأخلاقية لدى أغامبين:
يؤدي هذا أيضًا إلى ظهور تفسير أغامبين للمسؤولية الأخلاقية، حيث مقابل الحسابات القانونية للمسؤولية التي من شأنها أن تفهمها من حيث الرعاية والدين والالتزام، فإنّ أغامبين يجادل بأنّه يجب اعتبار المسؤولية غير قابلة للاستيعاب بشكل أساسي كشيء يتم إسناده إليه، ولكن لا يمكن أبدًا أن يكون مناسبًا تمامًا كخاص به، ويقترح بأنّه يجب التفكير في المسؤولية دون الرجوع إلى القانون كمجال من اللامسؤولية أو عدم المسؤولية التي تسبق بالضرورة تسميات الخير والشر، وتنطوي على مواجهة مسؤولية أكبر بلا حدود من أي مسؤولية يمكن أن نتحملها.
في حين أنّه قد يبدو كما لو أنّ أغامبين يميل نحو مفهوم المسؤولية الأخلاقية على غرار مفهوم الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس (Emmanuel Levinas) للمسؤولية اللانهائية تجاه الآخر المطلق، فإنّ هذا ليس هو الحال تمامًا حيث يرى أغامبين أنّ ليفيناس مجرد تطرف في العلاقة القانونية للرعاية في غير قابلة للتفسير الذنب، وبخلاف ذلك يجادل أغامبين بأنّ: “الأخلاق هي المجال الذي لا يعترف بالذنب ولا بالمسؤولية، حيث إنّه عقيدة الحياة السعيدة”.