وُلِد الفيلسوف جان بودان في أنجيه لعائلة حرفيين مزدهرة من أصول يهودية، ودرس القانون الروماني في جامعة تولوز (في الوقت الذي كان فيه نافاروس تقريبًا) ودرّس القانون الروماني، وقبل أن يصبح محامياً في باريس حوالي عام 1561، ومع ذلك لم يكن بودان محترفًا قديمًا فقد كان لديه فضول فكري متنوع ونهم، حيث كان يقرأ عمليًا كل ما يمكنه الحصول عليه.
فكر بودان الاقتصادي:
أثار اهتمام بودان بالاقتصاد كتابات ماليسترويت (Malestroict) والتي وضعت الحجة القياسية بأنّ التضخم على مستوى أوروبا في ذلك الوقت كان بسبب انخفاض قيمة العملة وتقطيعها، وفي كتابه عام 1568 لم يجادل بودان في أنّ هذه الأنشطة يمكن أن تسبب التضخم ولكن بودان أراد أن يلقي اللوم على الفضة البيروفية التي تتدفق إلى أوروبا عبر إسبانيا.
لاحظ بودان أنّ تقليم الفضة وتقليل قيمتها واستيرادها لها سمة مشتركة: فقد زادوا جميعًا مقدار المال بالنسبة للسلع، وبالتالي طرح بودان ما يُعترف به عمومًا كأحد العبارات الأولى لنظرية الكمية للنقود حيث يوضح بالتفصيل العلاقة بين مستويات الأسعار والعرض النقدي بشكل عام.
نظرًا لأنّ الأموال تتدفق في الاتجاه المعاكس للبضائع أدرك بودان أنّ صادرات السلع زادت الأسعار بينما تخفض الواردات منها، وهكذا فإنّ الصيغة الجوهرية لسياسة التجارة الخارجية ماليسترويت كانت ضمنية بالفعل في عمل بودان، حيث إذا كنت ترغب في رفع الأسعار فقم بإدارة ميزان تجاري ملائم.
كان بودان نفسه يميل عمومًا إلى التجارة الحرة معتقدًا أنّها تعمل على استقرار الأسعار وتساعد على توحيد الدول وتعزيز السلام، كما صاغ بودان خطة لخطة مخزون احتياطي للسلع تديرها الحكومة لتحقيق الاستقرار في أسعار القمح واتفاقية دولية للمعايير النقدية، ومع ذلك فقد عارض تمامًا رفع الحظر عن الربا.
في عام 1571 دخل بودان في خدمة شقيق الملك دوق ألنسون (لاحقًا أنجو) ورافقه إلى إنجلترا (في بلاط الملكة إليزابيث الأولى وكاد بودان أن يصبح مهرجًا)، وفي عام 1576إلى عام 1577 خدم بودان كمندوب للطائفة الثالثة في العقارات العامة في بلوا، وألقى بودان نصيبه السياسي مع ميشيل دوبيتال الذي كان فصيله السياسي يحاول بناء طريق ثالث بين متطرفي الرابطة المقدسة الكاثوليكية والاتحاد الكالفيني، وحث بودان على إجراء مفاوضات مع الكالفينيين بدلاً من استئناف الحروب الدينية وعارض بيع أراضي النظام الملكي لجمع الأموال لأي مسعى من هذا القبيل.
يتم التعبير عن أفكار وفلسفة جان بودان (Jean Bodin) الاقتصادية الرئيسية في عملين وهما: في البداية في رده على مفارقات ماليسترويت (Paradoxes of Malestroit) الذي نُشر لأول مرة في عام 1568 ثم في نسخة ثانية منقحة في عام 1578.
الاستجابة عبارة عن تحليل لأسباب السعر الكبير والمستمر لارتفاعات عصفت بأوروبا في القرن السادس عشر، وفي هذا العمل قيل أنّ بودان قدّم واحدة من أقدم الصيغ لنظرية الكمية للنقود، وفي أبسط أشكالها فإنّ نظرية الكمية للنقود هي التأكيد على أنّ عرض النقود يؤثر بشكل مباشر على مستويات الأسعار، والفصل الثاني من الكتاب السادس للجمهورية هو مناقشة مطولة للموارد المحتملة للدولة، ويوجد تداخل جزئي بين العملين منذ أن قام بودان بتضمين فقرات معينة من الاستجابة في كتابه الجمهورية ثم قام بدمجها مرة أخرى في شكل منقح في الطبعة الثانية من الرد.
النظرية الكمية للنقود:
كان التضخم المرتفع متفشياً في القرن السادس عشر في أوروبا، حيث بدأت في إسبانيا وسرعان ما امتدت إلى الدول المجاورة لها، فقد كان هذا بسبب الزيادة في كمية المعادن الثمينة وهي الفضة والذهب التي تم جلبها بالقوارب إلى أوروبا من المستعمرات الإسبانية في العالم الجديد.
في عام 1563 قررت غرفة باريس للحسابات (Chambre des Comptes de Paris) التحقيق في أسباب التضخم، ونشرت نتائج التحقيق في عام 1566 في دراسة بعنوان مفارقات رب ماليسترويت حول مسألة المال (The Paradoxes of the Seigneur de Malestroit on the Matter of Money)، حيث كان مؤلف الدراسة رجلًا يُدعى جان شيروز (Jean Cherruies)، ولا نعرف عنه سوى القليل إلى حد ما، حيث كانت هذه المفارقات التي سعى جان بودان إلى دحضها في عمله.
اعتبرت ماليسترويت أنّ ارتفاع الأسعار هو ببساطة تغييرات في وحدة الحساب التي نتجت عن التدهور، وأنّ أسعار المعادن الثمينة ظلت ثابتة لمدة ثلاثمائة عام.
مناهضة بودان لتحليل ماليسترويت:
بينما دحض بودان تحليل ماليسترويت لسببين وهما:
1- أولاً كان قادرًا على إظهار أنّ استخدام ماليسترويت للبيانات كان غير صحيح حيث كان ادعاء ماليسترويت المركزي لدعم أطروحته هو السعر الثابت للمخمل منذ القرن الرابع عشر، ومع ذلك شكك بودان في حقيقة ما إذا كان المخمل معروفًا في فرنسا في مثل هذه الفترة المبكرة.
2- ثانيًا كان بودان قادرًا على إثبات أنّ الانحدار وحده لم يفسر أسباب مثل هذه الزيادات الكبيرة والمهمة في الأسعار، وفي حين أنّ الانحطاط كان أحد العوامل التي أدت إلى هذا التضخم إلّا أنّه لم يكن السبب الرئيسي.
فلسفة بودان في أسباب زيادة التضخم:
يسرد بودان خمسة عوامل رئيسية كأسباب تساهم في هذا التضخم الواسع الانتشار:
1- الوفرة المفاجئة للمعادن الثمينة مثل الفضة والذهب في جميع أنحاء أوروبا.
2- الاحتكارات.
3- الندرة الناتجة عن تجارة التصدير المفرطة، وتجارة الاستيراد شبه غير الموجودة والنفايات.
4- الطلب المألوف من قبل الأغنياء على بعض المنتجات الفاخرة.
5- أخيراً التقليل.
من بين هذه الأسباب الخمسة اعتبر بودان أنّ وفرة المعادن الثمينة هي الأكثر أهمية.
مالية الدولة ومسألة الضرائب وحقوق الملكية:
يناقش الفصل الثاني من الكتاب الأخير لجمهورية بودان مسألة تأمين الجمهورية (الكومنولث) لأمواله، ويتم سرد سبعة مصادر محتملة للدخل وهذه هي:
1- المجال العام.
2- أرباح الفتوحات.
3- هدايا من الأصدقاء.
4- تحية من الحلفاء.
5- أرباح المشاريع التجارية.
6- الجمارك على الصادرات والواردات.
7- أخيراً الضرائب على الموضوع.
يعتبر بودان أنّ المجال العام هو المصدر الأكثر صدقًا والأكثر موثوقية للدخل للكومنولث، كما يكتب أنّه عبر التاريخ اعتبر الأمراء السياديين ومواطنيهم أنّ الملك العام يجب أن يكون مقدسًا ومصونًا وغير قابل للتصرف كقاعدة عامة.
يكتب بودان أنّ: “عدم قابلية الملك العام للتصرف له أهمية قصوى، ومن أجل لا ينبغي للأمراء أن يجبروا على زيادة تحميل أتباعهم بفوائد، أو أن يروا أي وسائل غير مشروعة للتنازل عن سلعهم”، والطريقة السابعة لزيادة الإيرادات في قائمة بودان هي فرض ضرائب على هذا الموضوع، ولكن يمكن استخدامها فقط عندما تفشل جميع الإجراءات الأخرى ويتطلب ذلك الحفاظ على الكومنولث.
يعتبر بودان أنّ الملكية العامة غير قابلة للتصرف جنبًا إلى جنب مع قانون ساليك وهي أحد القوانين الأساسية للدولة، ومثل العديد من معاصريه رأى بودان أنّ فرض ضرائب جديدة دون موافقة كان انتهاكًا لحقوق الملكية للفرد وعلى هذا النحو مخالف لقانون الله والطبيعة.
كان حازمًا بشكل خاص في معارضة الضرائب الجديدة دون الموافقة المناسبة وسعى للحصول على تأكيد لرأيه في التاريخ الفرنسي والأوروبي، ويتعلق أحد الاختلافات الرئيسية بين الحاكم الشرعي والحاكم غير الشرعي بمسألة كيفية تعامل كل منهما مع الملكية الخاصة لرعاياهما، وحقوق الملكية محمية بموجب شريعة الله والطبيعة، وبالتالي فإنّ انتهاك الملكية الخاصة للمواطنين هو انتهاك لقانون الله والطبيعة، ويحول طاغية رعاياه إلى عبيد له ويتعامل مع ممتلكاتهم الخاصة كما لو كانت ملكه.