الفلسفة التحليلية والذرية المنطقية

اقرأ في هذا المقال


مفهوم الذرية المنطقية:

جاء لودفيج فيتجنشتاين إلى كامبريدج لدراسة المنطق الرياضي تحت إشراف راسل لكنه سرعان ما أثبت نفسه كزميل فكري لمعلمه، فمعًا ابتكروا نظامًا ميتافيزيقيًا يسمى “الذرية المنطقية”، ويبدو أنّ الذرية المنطقية كانت من بنات أفكار فيتجنشتاين، ومع ذلك لا ينبغي أن يُنظر إلى هذا بأي حال من الأحوال على أنّه تهميش أهمية راسل بالنسبة للنظام، والتي يمكن وصفها بأنّها ميتافيزيقية تستند إلى افتراض أنّ اللغة المثالية التي تم توفير أمثالها في مبادئ الرياضيات Principia Mathematica هي مفتاح الواقع.

عناصر الذرية المنطقية:

ووفقًا للذرة المنطقية تُبنى الافتراضات من عناصر تتوافق مع المكونات الأساسية للعالم تمامًا كما تُبنى الجمل من الكلمات، ويعكس الجمع بين الكلمات في جملة ذات مغزى مجموعة المكونات في الاقتراح المقابل وأيضًا في الحالة المقابلة الممكنة أو الفعلية، أي أنّ بنية كل حالة ممكنة أو فعلية متشابهة مع كل من بنية الاقتراح الذي يشير إليه وبنية الجملة التي تعبر عن هذا الافتراض أي طالما أنّ الجملة صيغت بشكل صحيح في تدوين الرمز الرمزي منطق.

يُطلق على أبسط نوع من التوليفات حقيقة ذرية لأنّ هذه الحقيقة لا تحتوي على حقائق فرعية كجزء من هيكلها، وقد تكون الحقيقة الذرية بالنسبة لبعض علماء الذرة المنطقية شيئًا مثل امتلاك فرد لخاصية، على سبيل المثال ورقة معينة تكون خضراء، فمن الناحية اللغوية يتم تمثيل هذه الحقيقة من خلال اقتراح ذري أي على سبيل المثال “هذه الورقة خضراء”، أو في الرمزية المنطقية “(F (a” تسمى كل من حقيقة (F (a والقضية “(F (a” “ذرية” ليس لأنّها ذرية -أي بدون بنية- ولكن لأنّ جميع مكوناتها هي، فالحقائق الذرية هي المكونات الأساسية للعالم والافتراضات الذرية هي المكونات الأساسية للغة.

الافتراضات الجزيئية والحقائق الجزيئية:

تسمى الافتراضات الأكثر تعقيدًا التي تمثل حقائق أكثر تعقيدًا الافتراضات الجزيئية والحقائق الجزيئية، ويتم تقديم الافتراضات من خلال ربط الافتراضات الذرية مع روابط وظيفية للحقيقة، مثل “و” “أو” و “لا”، والرابطة الوظيفية للحقيقة هي تلك التي تجمع بين الافتراضات المكونة بطريقة تجعل قيم الحقيقة الخاصة بها (أي حالات كل منها صحيحة أو خاطئة) وتحدد تمامًا قيمة الحقيقة للافتراض الجزيئي الناتج.

على سبيل المثال يمكن وصف قيمة الحقيقة لقضية ما على شكل “not-p” من حيث القيمة الحقيقية لـ “p”، وبالتالي التعامل معها على أنّها تحددها، لأنّه إذا كانت “p” صحيحة فإنّ “not- p “خطأ، وإذا كانت خاطئة فإنّ” not-p “تكون صحيحة، وبالمثل فإنّ اقتراح النموذج “p و q” سيكون صحيحًا إذا وفقط إذا كانت افتراضاته المكونة “p” و “q” صحيحة من تلقاء نفسها.

إنّ منطق مبادئ الرياضيات يقوم على الحقيقة بالكامل أي أنّه يسمح فقط للقضايا الجزيئية التي يتم تحديد قيم الحقيقة من خلال مكوناتها الذرية، وهكذا كما لاحظ راسل في مقدمة الطبعة الثانية من كتاب المبادئ “بالنظر إلى كل الافتراضات الذرية الحقيقية جنبًا إلى جنب مع حقيقة أنّها كلها يمكن نظريًا استنتاج كل افتراض حقيقي آخر من خلال الأساليب المنطقية” (راسل)، ويكمن نفس الافتراض – الذي يُطلق عليه أطروحة وظيفة الحقيقة أو أطروحة الامتداد – وراء كتاب فتجنشتاين Tractatus Logico-Philosophicus.

اقتراحات فيتجنشتاين في كتاب Tractatus :

وقد ثبت أنّ Tractatus لفيتجنشتاين هو التعبير الأكثر تأثيرًا عن الذرية المنطقية، فقد تم تنظيم Tractatus حول سبع مقترحات مأخوذة هنا من ترجمة عام 1922 بواسطة أوغدن C.K.Ogden:

  1. العالم هو كل ما هو عليه الحال.
  2. الحال والحقيقة هو وجود الحقائق الذرية.
  3. الصورة المنطقية للحقائق هي الفكر.
  4. الفكر هو الاقتراح المهم.
  5. المقترحات هي وظائف الحقيقة للقضايا الأولية، (الافتراض الأولي هو وظيفة حقيقة في حد ذاته).
  6. الشكل العام لدالة الحقيقة هو…. هذا هو الشكل العام للقضية.

توضيح أقتراح 1 – 4:

يتكون جسم Tractatus من مستويات متتالية من التوضيحات المرقمة لهذه الافتراضات (1 تم تطويره بواسطة 1.1 الذي تم تطويره بواسطة 1.11 و 1.12 و 1.13 ، وما إلى ذلك) باستثناء 7 الذي يقف من تلقاء نفسه، ويؤسس الاقتراحان 1 و 2 الجانب الميتافيزيقي للذرة المنطقية أي العالم ليس سوى مجموعة معقدة من الحقائق الذرية.

ويؤسس الاقتراحان 3 و 4 التماثل بين اللغة والواقع أي فالقضية المهمة (ذات المعنى) هي “صورة منطقية” للحقائق التي تشكل بعض الأوضاع الممكنة أو الفعلية.

إنّها صورة بمعنى أنّ بنية الاقتراح متطابقة مع بنية الحقائق الذرية المقابلة، وهنا بالمناسبة نحصل على أول بيان صريح لوجهة النظر الميتافيلوسفية المميزة للفلسفة التحليلية المبكرة بأنّ “كل الفلسفة هي” نقد للغة “.

توضيح اقتراح 5:

ويؤكد الاقتراح 5 على فرضية وظيفة الحقيقة والرأي القائل بأنّ جميع القضايا المعقدة مبنية من افتراضات ذرية مرتبطة بوصلات وظيفية للحقيقة، وأنّ الافتراضات الذرية تعمل في حد ذاتها، حتى الافتراضات التي تم قياسها كميًا وجوديًا تعتبر انفصالًا طويلًا عن الافتراضات الذرية.

ومنذ ذلك الحين تم الاعتراف بأنّ منطق وظيفة الحقيقة لا يكفي لإلتقاط جميع ظواهر العالم، أو على الأقل إذا كان هناك نظام مناسب يعمل على الحقيقة فإنّنا لم نعثر عليه بعد، ويبدو أنّ بعض الظواهر تتحدى التوصيف الوظيفي للحقيقة.

ومعرفة إشكالية مماثلة هي الحقائق المتعلقة بالأفكار والمعتقدات والحالات العقلية الأخرى (التي تم التقاطها في عبارات مثل “يعتقد جون أن …”)، والحقائق النمطية (التي تم التقاطها في عبارات حول ضرورة أو إمكانية وجود حالات معينة).

ولا يبدو أنّ التعامل مع المحددات الكمية الوجودية على أنّها مفارقات طويلة مناسب للعدد اللامتناهي من الحقائق حول الأرقام نظرًا لوجود أعداد حقيقية أكثر من الأسماء المتاحة لتسميتها حتى لو كنا على استعداد لقبول الفواصل الطويلة بلا حدود، وإنّ الأمل في أن يكون المنطق الوظيفي للحقيقة مناسبًا لحل كل هذه المشكلات قد ألهم قدرًا جيدًا من التفكير في التقليد التحليلي خاصة خلال النصف الأول من القرن العشرين، ويكمن هذا الأمل في قلب النظرية الذرية المنطقية.

توضيح اقتراح 6:

ويتضمن الاقتراح 6 بعض الرموز غير العادية التي لم يتم إعادة إنتاجها هنا، حيثكل ما تفعله ومع ذلك هو إعطاء “وصفة” عامة لخلق افتراضات جزيئية من خلال إعطاء الشكل العام لوظيفة الحقيقة.

في الأساس يقول فيتجنشتاين أنّ جميع الافتراضات تعمل على الحقيقة وأنّه في النهاية، هناك نوع واحد فقط من وظيفة الحقيقة، وفي عام 1913 أظهر المنطق المسمى هنري شيفر أنّ المقترحات التي تتضمن هذه الوصلات يمكن إعادة صياغتها (تحليلها) بإعتبارها مقترحات تتضمن رابطًا واحدًا يتكون من نفي اقتران، والذي كان يسمى هذا الرابط “لا و” أو “ناند”، وكان من المفترض أن يكون مكافئًا لصيغة اللغة العادية “ليس كل من س وص.”

عادة ما يتم ترميزه بخط عمودي قصير (|) يسمى حد شيفر، على الرغم من أنّ فيتجنشتاين يستخدم رمزيته الخاصة، إلّا أن هذه هي العملية المحددة في الاقتراح 6 وبعض تفاصيلها على أنّها توضح الشكل العام لوظيفة الحقيقة، واستبدال تعدد الوصلات في Principia بوصلة “nand” المصممة لنظام أضيق الحدود للغاية – حيث كل ما يحتاجه المرء لبناء صورة أو وصف كامل للعالم كان رابطًا وظيفيًا واحدًا تم تطبيقه بشكل متكرر على مجموعة جميع الافتراضات الذرية.

توضيح اقتراح 7:

الاقتراح 7 الذي يقف في حد ذاته هو تتويج لسلسلة من الملاحظات التي تم إجراؤها في جميع أنحاء Tractatus، ولا سيما في صياغة الاقتراح 6، ففي جميع أنحاء Tractatus هناك تمييز بين العرض والقول، حيث القول هو مسألة التعبير عن اقتراح ذي مغزى، والعرض هو مسألة تقديم شكل أو هيكل شيء ما، وهكذا كما يلاحظ فيتجنشتاين “يُظهر الافتراض معناه، ويُظهر الاقتراح كيف تسير الأشياء إذا كانت صحيحة، وتقول إنهم يفعلون ذلك. “

في مقدمة الرسالة يشير فيتجنشتاين إلى أنّ هدفه الشامل هو وضع معايير وحدود القول ذي المعنى، والجوانب الهيكلية للغة والعالم – تلك الجوانب التي تظهر – تقع خارج حدود القول الهادف، ووفقًا لفيتجنشتاين فإنّ افتراضات المنطق والرياضيات هيكلية بحتة وبالتالي لا معنى لها – فهي تُظهر شكل جميع الافتراضات وحالات الأمور الممكنة، لكنها لا تصور أي حالة معينة، وبالتالي فهي لا تقول أي شيء، وهذا له نتيجة غريبة وهي أنّ افتراضات الرسالة نفسها، والتي من المفترض أن تكون حول المنطق لا معنى لها.

على الرغم من أنّ افتراضات المنطق والرياضيات لا معنى لها إلّا أنّها ليست هراء، ولديهم على الأقل ميزة إظهار البنية الأساسية لجميع الحقائق الممكنة، ومن ناحية أخرى هناك سلاسل من الكلمات والافتراضات المزعومة التي لا تظهر ولا تقول أي شيء، وبالتالي فهي غير مرتبطة بالواقع بأي شكل من الأشكال.

هذه الافتراضات ليست مجرد عبثية بل هي هراء، ومن بين الافتراضات التي لا معنى لها، تم تضمين الجزء الأكبر من البيانات الفلسفية التقليدية التي توضح المشكلات والحلول الفلسفية التقليدية خاصة في الميتافيزيقا والأخلاق، وهذا هو نتيجة افتراض فيتجنشتاين بأنّ المعنى يرتبط بطريقة ما بمجال الظواهر التي تدرسها العلوم الطبيعية.

في نظر مؤلفها (كما يصرح في مقدمتها)، كان الإنجاز الحقيقي لـ Tractatus هو حل أو بالأحرى حل جميع المشكلات التقليدية للفلسفة من خلال إظهار أنّها كانت ألغازًا لا معنى لها ولدت من الفشل في فهم حدود الخطاب الهادف.


شارك المقالة: