الفلسفة السياسية لجورجيو أغامبين

اقرأ في هذا المقال


كان البعد الأكثر تأثيرًا لعمل الفيسلوف جورجيو أغامبين في السنوات الأخيرة هو مساهماته في النظرية السياسية، وهي مساهمة تنبع مباشرة من انخراطه في الميتافيزيقيا وفلسفة اللغة.

فلسفة أغامبين في كتابه (Homo Sacer):

بدأ أغامبين مشروعه (Homo Sacer) أي (ولي تقي) بدراسته التي حظيت بقبول واسع برمجيًا بنفس العنوان في عام 1995، ويمكن تفسير الكثير مما كتبه في السنوات التالية على أنّه تفصيل لتأثير وعواقب تقنين السياسة التي يحتقرها كثيرًا، فبالنسبة له على عكس فهم الدستورية الحديثة فإنّ التشريع ليس عملية حضارة للنظام السياسي، وأنّها تنتج أدوات قانونية جاهزة تحت تصرف أي صاحب في أي وقت.

لذلك وفقًا لأغامبين من الأسطورة التي يرويها عادةً أنصار الديمقراطيةالليبرالية أنّ القانون لديه القدرة على تقييد السيادة، ولكن بدلًا من ذلك فإنّه يتيح السيادة، وعلى هذه الخلفية ليس من المفاجئ أن يتواصل أغامبين مع مجموعة واسعة من منتقدي المفهوم الليبرالي للديمقراطية ويحاول الاستفادة من حججهم لمشروعه الخاص، فعلى سبيل المثال يشارك أغامبين مفهوم السياسة الحيوية مع فوكو لكنه يفهمها (على عكس فوكو) كظاهرة عامة للقانون والسياسة.

علاوة على ذلك يستعير من كارل شميت نظرية حالة الاستثناء بينما يحولها إلى هيكل دائم يحول جميع البشر إلى أشباه (sacer) محتملة، ويلتقط تحليل حنة أرندت لمعسكرات الاعتقال خلال العهد النازي مؤكدًا أنّ نطاق السلطة السيادية يكاد يكون غير محدود، خاصةً إذا كان قائمًا على حكم غير شخصي من التعسف وعدم اليقين الذي يتيح إنتاج أشكال من الحياة المجردة بالكاد يمكن أن يطلق عليه اسم الإنسان.

الفلسفة السياسة بين الفيلسوفان أغامبين وفوكو:

مما لا شك فيه أشهر عمل لأغامبين هو ولي تقي: القوة السيادية والحياة المجردة (Homo Sacer: Sovereign Power and Bare Life)، وربما أيضًا الأكثر إثارة للجدل، في هذا الكتاب يطوّر أغامبين تحليله لحالة السياسة الحيوية، التي حددها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لأول مرة في المجلد الأول من سلسلة تاريخ الجنسانية والنصوص المرتبطة به، كما لأنّه في هذا المجلد جادل فوكو بأنّ السلطة الحديثة تتميز بعقلانية مختلفة اختلافًا جوهريًا عن عقلانية السلطة السيادية.

في حين تميزت السلطة السيادية بحق على الحياة والموت، ولخصها فوكو في القول المأثور: “القتل أو ترك الحياة”، حيث تتميز السلطة الحديثة بعلاقة مثمرة مع الحياة مغلفة في مقولة: “رعاية الحياة أو عدم السماح بها”، وبالنسبة لفوكو تم الوصول إلى عتبة الحداثة مع الانتقال من السلطة السيادية إلى السلطة الحيوية، حيث أصبحت الذات السياسية الجديدة للسكان هدفًا لنظام السلطة الذي يعمل من خلال إدارة تقلبات الحياة البيولوجية نفسها.

وهكذا في مراجعته النقدية لأرسطو كتب فوكو أنّ: “الإنسان ظل لآلاف السنين حيوانًا حيًا يتمتع بقدرة إضافية على الوجود السياسي، بينما الإنسان المعاصر حيوان تضع سياسته وجوده ككائن حي موضع تساؤل”، كما يتعامل أغامبين بشكل واضح مع أطروحة فوكو حول السلطة الحيوية في (Homo Sacer) مدعيًا أنّه يهدف إلى تصحيحها أو إكمالها على الأقل، على الرغم من أنّه في الواقع يرفض عددًا من التزامات فوكو التاريخية والفلسفية وادعاءاته، ويقترح أنّ فوكو فشل في توضيح النقاط التي تتطابق فيها القوة السيادية والتقنيات الحديثة للسلطة.

كما يرفض أغامبين فرضية أنّ الصعود التاريخي للسلطة الحيوية كان بمثابة علامة على عتبة الحداثة، وبدلاً من ذلك يدّعي أنّ السلطة الحيوية والسيادة متكاملان بشكل أساسي إلى الحد الذي يمكن القول فيه أنّ إنتاج هيئة سياسية بيولوجية هو النشاط الأصلي للسلطة السيادية

فما يميّز الديمقراطية الحديثة عن الدولة القديمة إذن ليس دمج الحياة البيولوجية في مجال السياسة، بل حقيقة أنّ سلطة الدولة الحديثة تسلط الضوء على العلاقة بين السيادة والجسد السياسي الحيوي بطريقة غير مسبوقة، وهذا لأنّه في الديمقراطيات الحديثة أصبح  ما تم استبعاده أصلاً من السياسة كاستثناء يقف في الخارج ولكنه مع ذلك يؤسس القانون وأصبح الآن هو القاعدة كما يكتب أغامبين: “في السياسة الغربية تتمتع الحياة المجردة بامتياز خاص لكونها من استبعادهم وجدت مدينة الرجال”.

ماذا أضاف عمل أغامبين في الفلسفة السياسية؟

تسترشد أطروحة (Homo Sacer) بالعديد من الابتكارات النظرية اثنان منها مهمان بشكل خاص وهما:

1- الأول هو إعادة تصور للسلطة السياسية وتم تطويره من خلال التفكير المعقد في الميتافيزيقيا الأرسطية وخاصة مفهوم الإمكانية، جنبًا إلى جنب مع المشاركة النقدية مع نظرية السيادة التي طرحها كارل شميت والتي تم تطويرها من خلال مشاركة والتر بنجامين الخاص مع شميت.

2- الابتكار الثاني الذي قدمه أغامبين هو نظريته الاستفزازية للحياة المجردة بصفته البطل المركزي للسياسة المعاصرة.

من بين هؤلاء يمكن القول إنّ الدافع الرئيسي داخل (Homo Sacer) ليس محاولة لتصحيح أو إكمال وصف فوكو للسياسات الحيوية بقدر ما هو محاولة لإكمال نقد بنيامين لشميت، ففي اللاهوت السياسي يلخص كارل شميت -الفقيه الألماني سيئ السمعة لانضمامه إلى الحزب النازي وأصبح أحد أقوى مؤيديه الفكريين- روايته شديدة القرار عن السيادة من خلال الادعاء بأنّ الحاكم هو الذي يقرر الاستثناء.

بالنسبة لشميت فإنّ القدرة على اتخاذ قرار بشأن ما إذا كان الوضع طبيعيًا أو استثنائيًا، وبالتالي ما إذا كان القانون ينطبق أم لا -نظرًا لأنّ القانون يتطلب وضعًا طبيعيًا لتطبيقه- فإنّ السيادة واضحة، وضد صياغة السيادة هذه يفترض بنيامين في أطروحات حول فلسفة التاريخ أنّ حالة الطوارئ أصبحت في الواقع هي القاعدة، وعلاوة على ذلك فإنّ المطلوب هو بدء حالة استثناء حقيقية من أجل مكافحة صعود الفاشية، التي تُفهم هنا على أنّها حالة طوارئ عدمية تعلق القانون بينما تتركه ساري المفعول.

في معالجة هذا الصراع بين شميت وبنجامين يجادل أغامبين أنّه في السياسة المعاصرة، حيث إنّ حالة الاستثناء التي حددها شميت والتي علق فيها القانون من قبل الحاكم أصبحت في الواقع هي القاعدة، وهذا هو الشرط الذي حدده كشرط للتخلي حيث يكون القانون ساريًا ولكن ليس له محتوى أو معنى جوهري فهو ساري المفعول بدون أهمية، ويقترح أنّ هيكل الاستثناء مماثل بشكل مباشر لهيكل الحظر الذي حدده الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي في مقالته حول كائن مهجور، حيث يدّعي نانسي أنّ القانون ينطبق فقط في الحظر على عدم تطبيقه.

كما أنّ موضوع القانون يتم تسليمه في نفس الوقت إلى القانون وتركه محرومًا منه، والشكل الذي استند إليه أغامبين لتوضيح هذا الشرط هو صورة الإنسان (sacer)، المأخوذة من القانون الروماني وتشير إلى الشخص الذي يمكن أن يُقتل ولكن لا يُضحي، ووفقًا لأغامبين فإنّ قدسية الإنسان (sacer) لا تشير كثيرًا إلى غموض مفاهيمي داخلي للمقدس، كما جادل الكثيرون مثل الوضع المهجور للإنسان المقدس فيما يتعلق بالقانون.

فالإنسان المقدس يُؤخذ إلى الخارج من القانون الإلهي والدنس كاستثناء وبالتالي يتخلى عنه، والأهم من ذلك بالنسبة إلى أغامبين حقيقة أنّ الاستثناء قد أصبح قاعدة في السياسة المعاصرة تعني أنّه ليس من الضروري أن يتخلى القانون عن بعض الأشخاص، وبالأحرى يقول أنّه في عصرنا: “نحن جميعًا تقريبًا رجال مقدسون”.


شارك المقالة: