الفلسفة النفعية المثالية لمور وأثر فلسفته الأخلاقية

اقرأ في هذا المقال


على الرغم من أنّ هذا هو محور كتابه الأخير الأخلاق، إلّا أنّه تم إعطاء فصل واحد فقط من كتاب المبادئ لما أسماه مور الأخلاق العملية، وهذا هو مجال الأخلاق الذي له علاقة بالسلوك، ومن ثم يتناول مفاهيم مثل الحق والجائز والواجب ونحو ذلك، وفي كلا المكانين يروج مور لوجهة نظر أصبحت تسمى النفعية المثالية.

نفعية الفيلسوف مور:

يقتصر حساب مور للقيمة الجوهرية على الأشياء بحيث لا يشمل الإجراءات، وبالنسبة لمور تمتلك الأفعال قيمة من حيث الأدوات فقط بقدر ما تكون منتجة لعواقب جيدة، وبالتالي فإنّ الحق والواجب والفضيلة هي طرق مختلفة لوصف الأفعال (أو التصرفات في الفعل) والتي تكون مفيدة كوسائل لتحقيق غايات جيدة.

كما أنّها تختلف في المعنى فقط بقدر ما تختلف التفاصيل الثانوية للموقف السببي، أي يشير الواجب إلى الفعل باعتباره منتجًا لخير أكثر من أي بديل محتمل، بينما يشير الحق أو المسموح به إلى فعل منتج على أنّه لا يقل نفعًا عن أي بديل محتمل، بينما الفضائل هي نزعات لأداء واجبات غير جذابة بشكل خاص:

“كواجبات من تصرفات نفعية أو المناسبة، لذلك يتم تمييز الفضائل عن التصرفات المفيدة الأخرى، وليس من خلال أي منفعة متفوقة أو عليا ولكن من خلال حقيقة أنّها تصرفات والتي من المفيد بشكل خاص الثناء والعقاب، لأن هناك إغراءات قوية ومشتركة لإهمال الأفعال التي تؤدي إليها”.

يرى مور أنّه لا يوجد فرق مهم في المعنى بين مفاهيم مثل الواجب والحق والفضيلة من ناحية  و الملائم أو المفيد من ناحية أخرى، وفي هذا يتفق مع النفعيين الكلاسيكيين جيريمي بينثام وجون ستيوارت ميل.

ومع ذلك في حين أنّ النفعية الكلاسيكية هي مذهب المتعة (أي أنّها تحدد الخير من حيث المتعة)، يدافع مور عن الحالة الفريدة الخاصة بالخير، ومن ثم فإنّ نفعية مور ليست من مذهب المتعة، بل بدلا من ذلك يقال إنّها مثالية.

سمات نفعية مور المثالية:

ولفهم ما يقصد بأن نفعية مور ليست من مذهب المتعة بل من المذهب المثالي فإنّه يجب أن نلاحظ سمتين من وجهة نظر مور وهما:

1- نفعية مور تعددية:

وذلك نظرًا لأنّ الخير وفقًا لحساب مور هو خاصية أو مفهوم بمعناه مستقل تمامًا عن أي مفهوم آخر، ويمكن تثبيته في أي عدد من الكيانات الأشياء أو الحالات من مجموعة متنوعة من الأنواع، وهذا يعني أنّ العديد من الأنواع المختلفة من الأشياء يمكن أن يكون لها قيمة جوهرية، وليس فقط حالات المتعة كما يمتلكها النفعيون الكلاسيكيون.

2- الخير بالنسبة لمور هو خاصية متحللة:

أي يمكن أن يكون لشيء أو حالة ما قيمة أكثر أو أقل من شيء آخر، وهذا مضمن في الطريقة التي ميّز بها مور بين الواجب والحق، بحيث يتعلق الواجب بإنتاج أفضل ما يمكن، بينما يتعلق الحق بإنتاج أفضل ما يمكن من الخيارات الأخرى، ويفترض كلا التعريفين أنّه يمكن تصنيف النتائج المحتملة (حالات الأمور) فيما يتعلق بدرجات قيمتها.

تم توضيح ذلك في الفصل السادس من كتاب المبادئ حيث يشرح مور مفهومه للحالة المثالية، وبشكل عام يقول مور عن الحالة المثالية هي: “جيدة بحد ذاتها بدرجة عالية”، ومن ثم فإنّ النفعية المثالية ستكون نوعًا من النفعية التي يجب أن يتم فيها ترتيب الأفعال ليس بأكبر قدر من السعادة أو المتعة ولكن لتلك الحالات التي تمتلك أعلى درجة من الخير.

في الواقع كما وضع مور الأمور سيكون الواجب دائمًا موجهًا نحو حالة مثالية ما (تجاه الدولة ذات أعلى درجة من الخير)، وبالتالي فإنّ معرفة أي الدول مثالية وبشكل أكثر تحديدًا أيها أكثر قيمة وبالتالي الأكثر مثالية أمر بالغ الأهمية للأخلاق العملية، فوفقًا لمور فإنّ أكثر الحالات قيمة التي نعرفها هي ملذات العلاقات الشخصية والمتعة الجمالية، وهكذا يخلص إلى أنّ الحقيقة النهائية والأساسية للفلسفة الأخلاقية هي أنّ:

“من أجل هذه الأشياء فقط (أي الحالتان المثاليتان للجمالية والمتعة الشخصية) ومن أجل وجود أكبر قدر ممكن منها في وقت ما، فإنّه يمكن تبرير أي شخص في أداء أي جمهور أو واجب خاص أنّهم سبب وجود الفضيلة، وأنّها هذه الكيانات المعقدة نفسها وليس أي من مكوناتها أو خصائصها، والتي تشكل النهاية العقلانية النهائية للفعل البشري والمعيار الوحيد للتقدم الاجتماعي”.

تأثير نظرية مور الأخلاقية:

كان لنظرية مور الأخلاقية تأثير هائل داخل الأكاديمية وخارجها، ففي الأكاديمية سادت النظريات غير المعرفية للأخلاق حتى عام 1960 تقريبًا، وكانت هذه النتيجة المنطقية لتكييف نظرية مور الأخلاقية مع النظرة الطبيعية للعالم، وأخذ كل من أجياله الخاصة والأجيال اللاحقة من الفلاسفة بعين الاعتبار معاملة مور للقيمة الأخلاقية باعتبارها غير طبيعية ورفضه المقابل للسماح بأي توصيف للخير بمصطلحات طبيعية.

ومع ذلك فهم إما فشلوا في إدراك حقيقة أنّ استخدام مور لمصطلح الطبيعي وما إلى ذلك أو تجاهلوه ببساطة، حيث كان ذا طابع خاص إلى حد ما، وبأخذ هذه المصطلحات بمعناها القياسي فإنّ ادعاءات مور حول كلمة جيد أشارت إلى أنّها لم تكن مجرد غير قابلة للتحديد ولكن لا يمكن معرفتها بأي وسيلة علمية أو طبيعية.

وجنبًا إلى جنب مع النظرة العلمية التي حصر المعرفة أو الموجود على ما يمكن التحقق منه علميًا أدى ذلك إلى رؤية أنّ الخير غير معروف.

كان هذا الرأي أساسًا على الرغم من منحه تطورًا لغويًا، وهو الذي قدم الموضوع الذي تم على أساسه اعتبار النظريات الأخلاقية الأكثر بروزًا من أوائل إلى منتصف القرن العشرين على أنّها العديد من الاختلافات، وبدأ هذا بالمعالجة المنطقية الوضعية للأخلاق، ووفقًا لمبدأ إمكانية التحقق من المعنى للوضعيين المنطقيين فإنّ معنى الافتراض هو طريقة التحقق التجريبي.

وإذا كان لا يمكن التحقق من الافتراض تجريبيا فإنّه يتم الكشف عن أنّه لا معنى له، وبالنظر إلى التوصيف الموري لمفهوم الجيد على أنّه غير طبيعي والمعنى المعتاد لمفهوم غير الطبيعي على أنّه يشير ضمنًا إلى غير تجريبي، فإنّ مبدأ التحقق جعل الافتراضات الأخلاقية بلا معنى، ومع ذلك من الواضح أنّ الخطاب الأخلاقي يلعب دورًا مهمًا في حياة الإنسان.

ووفقًا للوضعيين المنطقيين كان من المقرر تفسير ذلك من خلال التعامل مع الافتراضات الأخلاقية ليس على أنّها بيانات حقيقة ولكن كتعبيرات عن المشاعر، فعلى سبيل المثال يجب اعتبار عند قول عبارة: “الصدق جيد” على أنّها معادلة لـ “الصراحة من أجل الصدق!”.

فهذا الرأي الذي يطلق عليه عادة العاطفة، والذي شاع من قبل ألفريد جول آير في كتابه (اللغة والحقيقة والمنطق) عام 1936 وتم تعديله لاحقًا بواسطة تشارلز ليزلي ستيفنسون، وإلى حد ما تم توقع المشاعر العاطفية في معالجة مور للأخلاق العملية، ففي رأيه:

“إنّ التمييز الحقيقي بين الواجبات والأفعال الملائمة، ليس في أنّ الأولى هي أفعال يكون بأي حال من الأحوال أكثر فائدة أو إلزامية أو أفضل لأداءها، ولكنها أفعال من الأفضل الثناء عليها وفرضها بالعقوبات لأنّها هي الأفعال التي يوجد إغراء بحذفها”.

وبعبارة أخرى تضيف لغة الأخلاق العملية إلى اللغة غير الأخلاقية فقط دلالة الموافقة أو الرفض وما يترتب على ذلك من القوة التحريضية، ففي العاطفة امتد هذا الادعاء إلى كل الخطاب الأخلاقي، فالجزء الأكبر من الجدل في منتصف القرن حول حالة الادعاءات الأخلاقية تم تناوله برفض إبداعي للعاطفة التي كانت مع ذلك تتماشى مع الفصل الموري الأساسي بين الأخلاقي والطبيعي أو التجريبي أو العلمي.

حيث جاءت مثل هذه البدائل من ستيوارت هامبشاير Stuart Hamphire) 1949)، وجيمس أوبي أورمسون J.O. Urmson) 1950)، وستيفن إديلستون تولمين Stephen Toulmin) 1950)، وريتشارد ميرفين هير R.M Hare) 1952).

فقد بدأ الفلاسفة البريطانيون والأمريكيون في الفصل مع الانفصال الموري فقط في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى عمل إليزابيث أنسكومب (أنسكومب 1958) وفيليبا فوت (1958-1959-1961).

وبعيدًا عن الأكاديمية فإنّ تركيز مور على قيمة العلاقات الشخصية والتجارب الجمالية جعله محبوبًا لدى أعضاء مجموعة بلومزبري الذين اعتنقوا مور باعتباره شفيعهم، وكانت بلومزبري مجموعة من الكتاب والفنانين والمثقفين الطليعيين الذين أثبتوا أنّهم مؤثرون بشكل كبير في الثقافة خارج الأكاديمية.

وضمت المجموعة من بين آخرين كلايف بيل وروجر فراي وديزموند مكارثي وجون ماينارد كينز وليونارد وفيرجينيا وولف، حيث كان العديد من رجال بلومزبري أيضًا أعضاء في رسل كامبريدج، وكانوا قد التقوا أولاً مع بعضهم البعض ومور في هذا السياق.

وتم انتخاب مور لعضوية هذا المجتمع الطلابي السري في عام 1894، وبصفتهم أعضاء في بلومزبري فقد تبنوا تصور مور للصداقة والمتعة الجمالية كأفضل سلع بشرية ومن خلال مثالهم ومن خلال عملهم نقلوا على الأقل بعض آراء مور والقيم خارج قاعات الأوساط الأكاديمية وفي الثقافة الأوسع.

ومع ذلك فقد استخدموا أيضًا نظرية المعرفة الأخلاقية القائمة على الحدس لدى مور كمبرر للاستهزاء بأعراف ثقافتهم خاصة في مجال الأخلاق الجنسية، وفي الواقع نظرًا لسمعة بلومزبري في التراخي الأخلاقي غالبًا ما تعرضت آراء مور لانتقادات غير عادلة باعتبارها تشجع على السلوك المتهور.

ومن الواضح أنّ هذه حالة من الذنب بالارتباط حيث لم يزعم مور نفسه أبدًا أنّ الحب الحر كان جيدًا، وأقرب ما توصل إليه للموضوع هو مناقشة الأعراف الاجتماعية حول العفة كمثال على القواعد التي يمكن في ظل ظروف معينة تعليقها، ومع ذلك بعيدًا عن المصادقة على تعليقها فعليًا، فإنّه يجادل بأنّه من الواجب الامتثال لاتفاقيات المجتمع لأنّ هذا عادة ما يوّلد حالة من الخير الأعظم (في شكل تناغم اجتماعي) من انتهاكها.

يوضح الموقف مع بلومزبري أكبر ضعف في نظام مور الأخلاقي، وإنّه ليس ضعفًا نظريًا ولكنه ضعف عملي، ومن منظور نظري يعتبر الحدس غير معرض للخطر وهو محصن لأنّ الحدس لا يمكن التحقق منه.

وإذا ادعى شخص ما أنّ لديه حدسًا بأنّ كذا وكذا هو الحال، فلا يوجد شيء يمكن لأي شخص القيام به لإثبات ذلك أو دحضه، ومع ذلك نظرًا لأنّه لا يمكن التحقق منه يمكن استخدام الحدس لتبرير أي شيء، وهذه هي المشكلة العملية مع الأخلاق الحدسية، وبالطبع المشكلة ليست فريدة في نسخة مور عن الحدس ولكنها ترتبط بالحدس بشكل محدد.


شارك المقالة: