الفلسفة ما بعد الهلنستية

اقرأ في هذا المقال


لقد طور الهيلينيون -أبيقور والمتشاؤمون والرواقيون والمتشككون- مدارس أو حركات مكرسة لأنماط حياة فلسفية متميزة ولكل منها سبب في تأسيسها، وقد كان الفكر الأفلاطوني هو القوة الفلسفية المهيمنة في الفترة الزمنية التي أعقبت الفكر الهلنستي الصحيح، حيث سيتم التركيز على استقبال وإعادة تفسير فكر أفلاطون في الأفلاطونية الحديثة وخاصة في مؤسسها الفيلسوف بلوتينوس.

أفلوطين:

أفلوطين الذي ولد في عام 204 وتوفي في عام 270 م، وفي كتابه (Enneads) وهو عبارة عن مجموعة من ستة كتب مقسمة إلى تسعة أقسام، يبني على فكر أفلاطون الميتافيزيقي وبشكل أساسي على مفهومه عن الخير، حيث تم إخبار أفلوطين أيضًا من خلال عمل أرسطو وهو المحرك غير المتحرك (الفكر التفكير) على وجه الخصوص، وهو مطلع على الجزء الأكبر من التقليد الفلسفي القديم.

كما يقول كيفن كوريجان: “يغير أفلوطين كل شيء يرثه من خلال نشاط التفكير من خلال هذا الميراث بشكل نقدي وإبداعي”، وبمعنى آخر يرث أفلوطين مفاهيم الوحدة والأشكال والعقل الإلهي والروح ولكنه يجعل هذه المفاهيم ملكه، والنتيجة هي فلسفة تقترب من ممارسة روحية دينية.

هناك ثلاثة جوانب لميتافيزيقيا أفلوطين وهي: الواحد والعقل والروح، فالواحد هو المركز الذي لا يوصف للواقع كله ومنبع كل ما هو، وبتعبير أدق إنّه شرط الإمكانية للجميع ولكنه بحد ذاته يتجاوز كل الوجود، ولا يمكن تفسير الشخص بدقة في الخطاب، ويمكننا فقط أن نتأمله وعلى الأكثر أن ننقل تجربتنا الخاصة في هذا التأمل، كما يمكننا التحدث بشكل سلبي عن الواحد، وهكذا على سبيل المثال نقول إنّها غير فاعلة، ولا يخلق العقل أو الروح أو أي شيء آخر، وبالأحرى بحكم طبيعتها السامية فإنّها تنبع فقط من العقل والروح.

الفكر والروح والمادة:

العقل ينبع من الواحد بسبب امتلاءه، والواحد بكونه الواحد يعطي العقل ببساطة إذا جاز التعبير، ومنذ خروج العقل من مصدره والعودة إلى مصدره يتجه العقل نحو الواحد ويتأمله، فالعقل غير الواحد ولكنه متحد معه في التأمل، وكآخر فإنّه يؤدي إلى التعددية أي الأشكال التي هو عليها والتي تفكر بها (وبالتالي تفكر بنفسها)، والعقل يولد الروح التي تشترك في الفكر ولكنها أيضًا تنعش العالم المادي، وهكذا فإنّ العالم المادي تولده الروح وهذا يشمل كل كائن فردي، إذن فإنّ إنسانًا معينًا له نصيبه من الروح وأعلى جزء من الروح هو العقل حيث توجد الذات الحقيقية.

الذات الحقيقية والحياة الطيبة:

إنّ أفضل حياة للبشر تقتضي أن يصبح كل إنسان هو ذاته الحقيقية أي العقل، وهذا يعني أننا يجب أن نبتعد قدر المستطاع عن المادة والعالم المعقول اللذان يشكلان مشتتات وأن نكون عقلًا، ولتصبح الذات الحقيقية هو أن تعيش أفضل حياة، ومع ذلك فإنّ الذات بهذا المعنى تختلف تمامًا عن الفردية التي يتم الترويج لها في العالم الغربي، فيقول هادوت: “أن تصبح فردًا محددًا هو أن تفصل نفسك عن الكل عن طريق إضافة فرق وكما يقول بلوتينوس هو نفي، ومن خلال قطع كل الفروق الفردية وبالتالي فرديتنا يمكننا أن نصبح الكل مرة أخرى”.

تعتمد أفضل حياة على أن تصبح الذات الحقيقية للفرد من خلال العقل، مما يعني الابتعاد عن جزء الروح الذي نحدد به عادة أنفسنا والجزء العاطفي والمطلوب من الروح، وإذا اعتدنا الآن على تعريف أنفسنا من خلال ما نحب وما نكره وآراءنا فلن تكون الذات البلوتينية الحقيقية هي الذات على الإطلاق، ولكن بالنسبة لأفلوطين هذه هي الذات الحقيقية لأنّها الأقرب إلى مركز كل الحياة الواحد.

الأفلاطونيون الجدد في وقت لاحق:

أطلق أفلوطين تقليدًا فكريًا كان له تأثير كبير في فلسفة القرون الوسطى، وعُرف هذا التقليد منذ القرن التاسع عشر باسم (الأفلاطونية الحديثة)، لكن أفلاطون وأتباع الأفلاطونية الحديثة الآخرين رأوا أنفسهم مجرد أتباع ومترجمين لأفلاطون، وتابع تلميذ أفلوطين بورفيري الذي بدونه لن نعرف القليل أو لا شيء عن أفلوطين أو عمله، وتقليد سيده على الرغم من أننا لا نملك تمثيلًا كاملاً لعمله، ومع امبليكوس تم التركيز على عمل أرسطو منذ أن أخذ أرسطو كمصدر إعلامي عن الأفلاطونية.

شهدت الأفلاطونية الحديثة أيضًا ظهور المسيحية، وبالتالي رأت نفسها إلى حد ما في مواجهة معها، وربما جزئيًا بسبب هذه المواجهة مع المسيحية فقد سعى الأفلاطونيون الجدد لاحقًا إلى تطوير الجوانب الدينية للفكر الأفلاطوني الحديث، وهكذا قدم الأفلاطونيون الجدد اللاحقون الطقوس زاعمين أنّ الفكر وحده لا يمكن أن يوحدنا مع الآلهة، ولكن هناك حاجة إلى الرموز والطقوس لمثل هذا الاتحاد.

شيشرون والفلسفة الرومانية:

ماركوس توليوس شيشرون (المعروف عادة باسم شيشرون)، والذي كان شخصية سياسية مركزية خلال فترة حكم يوليوس قيصر المضطربة، وكانت السياسة دائمًا أهم شيء في حياته، لكنه تمكن من إنتاج ستة كتب مؤثرة في البلاغة وثمانية كتب في الفلسفة (الكثير منها خلال فترات النفي القسري).

يُنظر إليه عمومًا على أنّه أحد أكثر العقول تنوعًا في روما القديمة، ويُعتبر على نطاق واسع أحد أعظم الخطباء ومصممي النثر في روما، وعلى الرغم من أنّه ربما لم يكن مفكرًا استثنائيًا أو أصليًا، فقد كان له دور فعال في تعريف الرومان بالمدارس الرئيسية للفلسفة اليونانية، وأعلنت الكنيسة الكاثوليكية المبكرة وثنيًا صالحًا (بمعنى أنّ العديد من أعماله اعتبرت جديرة بالحفظ حيث اقتبس القديس أوغسطينوس وآخرون بتفانٍ من أعماله).

وفي حين كانت الفلسفة اليونانية هي الفلسفة السائدة لسنوات بما في ذلك في الجمهورية الرومانية وفي العصر الإمبراطوري، واعتبر شيشرون نفسه متشككًا أكاديميًا على الرغم من أنّه لم يأخذ شكوكه إلى حد التخلي عن السياسة والأخلاق، وإنّه مصدر مفيد للغاية للحفاظ على ليس فقط الشك الأكاديمي والتعليق عليه ولكن أيضًا المشائين والرواقيين والمتشككين.

كان أيضًا خطيبًا وسياسيًا بارعًا وألّف العديد من الأعمال الخاصة به، والتي غالبًا ما استخدمت مبادئ شكوك أو علق على فلسفات أخرى، كما لقد بذل كل ما في وسعه بصفته متشككًا حقيقيًا لتقديم كلا الجانبين في حجة، وقد قُتل شيشرون أثناء قيام الإمبراطورية الرومانية.

لعبت الرواقية دورًا مهمًا في الفترة الإمبراطورية خاصة مع الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، واشتهر ماركوس بما يسمى بالتأملات وهي ترجمة للكلمة اليونانية (ta eis heauton) أي (الأشياء لنفسه)، وكما يظهر العنوان اليوناني بوضوح كانت هذه التأملات موجهة لماركوس نفسه، وكانت هذه تذكيرات لكيفية العيش خاصة كإمبراطور شهد أوقاتًا مضطربة، كما يكشف هذا العمل في بياناته القصيرة والفعالة عادةً عن بعض مبادئ الفيزياء الرواقية ولكن هذا فقط في خدمة توجهه الأخلاقي الأكبر، حيث إنّها تدعو إلى حياة من البساطة والهدوء تعيشها الطبيعة.


شارك المقالة: