الجوهر والواقعية والتعالي في الفلسفة الوجودية

اقرأ في هذا المقال


الوجود يسبق الجوهر:

قد يعمل شعار سارتر “الوجود يسبق الجوهر” على تقديم أكثر ما يميز الوجودية، أي فكرة أنّه لا يمكن إعطاء أي تفسير عام وغير رسمي لما يعنيه أن تكون إنسانًا، لأنّ هذا المعنى يتم تحديده في من خلال وجود نفسها، فالوجود هو “صنع الذات في الموقف” (Fackenheim 1961: 37 فاكنهايم).

يضع ويبر Webber النقطة على هذا النحو: “الوجودية الكلاسيكية هالنظرية القائلة بأنّ الوجود يسبق الجوهر”، أي “لا يوجد شيء اسمه الطبيعة البشرية” بالمعنى الأرسطي، بحيث لا يمتلك الشخص “مجموعة من القيم يحمل في ثناياه عوامل يتم تنظيمها بطبيعتها لمتابعتها.

وبدلاً من ذلك فإنّ القيم التي تشكل سلوك الشخص ناتجة عن الاختيارات التي اتخذوها، وعلى عكس الكيانات الأخرى التي يتم تحديد خصائصها الأساسية من خلال نوع الكيانات التي هي عليها، فإنّ ما هو ضروري للإنسان – ما الذي يجعله ما هو عليه – لا يتم تحديده بنوعه بل بما يصنعه بنفسه ومن هي يصبح.

تكمن المساهمة الأساسية للفكر الوجودي في فكرة أنّ هوية الفرد لا تتشكل بواسطة الطبيعة ولا من خلال الثقافة، لأنّ “الوجود” هو بالضبط لتشكيل مثل هذه الهوية، وفي ضوء هذه الفكرة يجب فهم المفاهيم الوجودية الرئيسية مثل الواقعية والتعالي (المشروع) والاغتراب والأصالة.

في البداية يبدو من الصعب أن نفهم كيف يمكن للمرء أن يقول الكثير عن الوجود على هذا النحو، ولكن تقليديا ربط الفلاسفة مفهوم الوجود بمفهوم الجوهر بطريقة أنّ الأول يشير فقط إلى تجسيد الأخير، وإذا كان “الجوهر” يشير إلى ماهية الشيء و “الوجود” الذي هو عليه، فإنّه يترتب على ذلك أنّ ما هو مفهوم عن أي شيء معين وما يمكن التفكير فيه بشأنه سينتمي إلى جوهره.

ومن الجوهر بهذا المعنى – لنقل الإنسان كحيوان عقلاني أو إيماجو داي imago Dei – أنّ الفلسفة القديمة رسمت وصفاتها لطريقة حياة الفرد وتقديرها لمعنى وقيمة الوجود، وإنّ وجود الجوهر يعني أنّه يمكن وضع البشر داخل كيان أكبر وهو الكوسموس kosmos، الذي يوفر معيارًا لازدهار الإنسان.

احتفظت الفلسفة الحديثة بهذا الإطار حتى بعد أن تخلت عن فكرة “المكان الطبيعي” للإنسان في مواجهة الصورة العلمية لكون متاهة لانهائية، وفي ما يبدو كحركة وجودية بدائية رفض ديكارت التعريفات الأساسية التقليدية للإنسان لصالح التفكير الراديكالي في وجوده “أنا”.

ومع ذلك فقد أعاد بسرعة النموذج القديم من خلال وصف وجوده بأنّه وجود مادة تحددها خاصية أساسية وهي “التفكير”، وفي بالمقابل يقترح هايدجر أنّ “أنا” “كيان يكون (جوهره) بالتحديد أن يكون ولا شيء سوى أن يكون، وبالتالي لا يمكن التفكير في وجود مثل هذا الكيان على أنّه تجسيد لجوهر وبالتالي لا يمكن تحديد ما يعنيه أن تكون كيانًا من خلال الإحتكام إلى أطر أو أنظمة معطاة مسبقًا سواء كانت علمية أو تاريخية أو فلسفية.

الواقعية والتعالي في الفلسفة الوجودية:

بالطبع هناك معنى يقوم فيه البشر بتجسيد الجواهر كما تعترف عبارة هايدجر بالفعل، ولكن ما يهم للفكر الوجودي هو طريقة مثل هذا التمثيل هي طريقة الوجود، بحيث يمكن رؤية ما يعنيه هذا من خلال مقارنة الوجود البشري مع أنماط وجود هايدجر حيث يطلق على “المتاح” (أو “الجاهز في متناول اليد” ، zuhanden) و “الحاضر” (أو “الحاضر في متناول اليد” فورهاندين).

يتم تعريف الكيانات من النوع الأول التي يتم تمثيلها بالأدوات أثناء استخدامها من خلال الممارسات الاجتماعية التي يتم توظيفها فيها ويتم تحديد خصائصها فيما يتعلق بقواعد تلك الممارسات، بينما الكيانات من النوع الثاني المتمثلة بأشياء من التأمل الإدراكي أو البحث العلمي يتم تحديدها من خلال القواعد التي تحكم الإعطاء الإدراكي أو بناء النظرية العلمية.

يقوم الكيان المتوفر أو الحالي بإنشاء مثيل لبعض الخصائص إذا كانت هذه الخاصية مستنبطة بالفعل منها، ويمكن اعتبار البشر بهذه الطريقة أيضًا، ومع ذلك على عكس الحالات السابقة فإنّ حقيقة أنّ الخصائص الطبيعية والاجتماعية يمكن التنبؤ بها حقًا للبشر ليست كافية لتحديد ما هو بالنسبة لي أن أكون إنسانًا.

ويرى الوجوديون أنّ هذا يرجع إلى أنّ مثل هذه الخصائص ليست مجرد تحديدات قاسية لمن أنا ولكن دائمًا ما تكون موضع تساؤل، (من أنا يعتمد على ما أفعله من “ممتلكاتي”) حيث إنّها تهمني بطريقة مستحيلة بالنسبة للكيانات المتاحة والواقعة فقط، وكما قال هايدجر: “الوجود هو “رعاية” (سورج): الوجود ليس مجرد أن يكون، بل أن يكون مشكلة للذات”.

ووفقًا لشروط سارتر بينما توجد الكيانات الأخرى “في حد ذاتها” (en soi) و “هي ما هي عليه”، فإنّ الواقع البشري أيضًا “لذاته” (pour soi)، وبالتالي لا يتم استنفاده بأي من محدداته، أي إنّه ليس كما هو وليس كما هو.
الوجود البشري إذن لا يمكن التفكير فيه من خلال الفئات المناسبة للأشياء: الجوهر – الحدث – العملية، فهناك شيء من التمييز الداخلي في الوجود يقوض مثل هذه المحاولات وهو تمييز يحاول الفلاسفة الوجوديون التقاطه في تصنيفي “الواقعية” و “التعالي”.

أن أكون هو تنسيق هذه اللحظات المتعارضة بطريقة ما، وما أنا عليه جوهري، ليس سوى طريقتي في تنسيقها، وبهذا المعنى يضع البشر أنفسهم في موقف: ما أنا عليه لا يمكن فصله عما أعتبره نفسي، وفي عبارة تشارلز تيلور: “البشر هم (حيوانات ذاتية التفسير)”، حيث يكون التفسير أحد مكونات المترجم.

إذا لم يكن لهذه النظرة أن تنهار إلى تناقض فيجب توضيح مفهومي الواقعية والتعالي مع المخاطرة ببعض التبسيط المفرط، حيث يمكن التعامل معها على أنّها روابط متبادلة بين الموقفين اللذين يمكنني اتخاذهما تجاه نفسي أي موقف مراقب نظري من منظور الشخص الثالث وموقف الوكيل العملي من منظور الشخص الأول.

تشمل الوقائع كل تلك الخصائص التي يمكن أن يحددها تحقيق الشخص الثالث:

  • الخصائص الطبيعية مثل الوزن والطول ولون البشرة.
  • الحقائق الاجتماعية مثل العرق والطبقة والجنسية.
  • الخصائص النفسية مثل شبكة إيماني ورغباتي وصفات شخصيتي.
  • الحقائق التاريخية مثل أفعالي السابقة وخلفية عائلتي وبيئتي التاريخية الأوسع وما إلى ذلك.

أنا لست على علم في الأصل بوقائعي بهذه الطريقة من منظور الشخص الثالث وبدلاً من ذلك يتجلى في مزاجي كنوع من العبء ثقل “يجب أن أكون”، ومع ذلك يمكنني تبني موقف شخص ثالث أو موقف موضوعي تجاه كوني، ومن ثم قد تظهر هذه الجوانب من وقائعي على وجه التحديد على أنّها تلك التي تحدد من أنا.

ومع ذلك من وجهة نظر وجودية سيكون هذا خطأ أي ليس لأنّ هذه الجوانب من كوني ليست حقيقية أو واقعية، ولكن لأنّ نوع الوجود الذي أنا عليه لا يمكن تعريفه بمصطلحات واقعية أو ضمير الغائب، ولا يمكن القول بأنّ عناصر الواقعية هذه تخصني بالطريقة التي ينتمي بها لون التفاحة إلى التفاحة لأنني على أنّها تخصني باعتبارها “تحددني”، فقد فسرتها دائمًا من قبلي.

وعلى الرغم من أنّ ملاحظة الشخص الثالث يمكن أن تحدد لون البشرة أو الطبقة أو العرق إلّا أنّه في اللحظة التي تسعى فيها إلى تحديدها على أنّها ملكي يجب أن تتعامل مع الطابع المميز للوجود الذي أملكه، فلا يوجد أي معنى في أنّ الواقعية هي في نفس الوقت ملكي ومجرد حقيقة، ولأنّ وجودي أي نوع الوجود الذي أنا عليه يتم تحديده أيضًا من خلال الموقف الذي أتخذه تجاه الوقائعية، فالقدرة على اتخاذ مثل هذا الموقف هو ما يسميه الفلاسفة الوجوديون “التعالي”.

إنّ الحديث عن “التعالي” يشير إلى أنّ الفاعل “يتجاوز” ما هو ببساطة نحو ما يمكن أن يكون الواقعية – بما في ذلك خصائص الفاعل الخاصة – التي تظهر دائمًا في ضوء الممكن، بحيث لا تكون الإمكانية وظيفة لقوى مجهولة (الشخص الثالث أو الإحتمال المنطقي) ولكنها دالة من اختيار الوكيل وقراره، كذلك أيضًا خصائصي الواقعية – مثل عدم القابلية للاكتئاب والكسل، أو إدمان العمل البرجوازي بحيث يتخذ معنى بأن يصبح حافزًا أو أسبابًا معيارية على أساس كيف أؤيدها أو أنكرها في الفعل الحالي.

يميل الوجوديون إلى وصف منظور الوكالة المنخرطة من حيث “الاختيار” ويتم انتقادهم أحيانًا بسبب ذلك، والتي قد يكون – كما تقول الحجة – أنّه يمكن أن يقال إنني اخترت مسارًا للعمل في ختام عملية التداول، ولكن يبدو أنّه لا يوجد خيار متضمن في خضم هذه اللحظة عندما أرمي القلم الفارغ الغير مجدي جانبا في الإحباط.

فهل يمكن إرجاع كونه عديم الفائدة إلى “خياري” للإحباط؟ لكن الهدف من استخدام مثل هذه اللغة هو ببساطة الإصرار على أنّه في منظور الشخص الأول للوكالة لا أستطيع أن أتصور نفسي على أنّه محدد من خلال أي شيء متاح لي فقط من منظور الشخص الثالث.

حيث وراء إصرار الوجودي على أنّ الواقعية والتعالي يظلان جانبين غير قابلين للاختزال لواحد ونفس الكائن هو البصيرة بالنسبة للكائن الذي يمكنه أن يقول “أنا”، فإنّ منظور الشخص الثالث حول من ليس لديه سلطة أكثر من الشخص الأول منظور (الوكيل).

ونظرًا لأنّ الوجود يتألف بشكل مشترك من الواقعية والتعالي لا يمكن تصور الذات على أنّها الأنا الديكارتية، ولكنها تتجسد في الوجود في العالم وصنع الذات في الموقف، ومن خلال التعالي أو ما يشير إليه الوجوديون أيضًا على أنّه “مشاريعي” يتم الكشف عن العالم ويأخذ معنى.

لكن مثل هذه المشاريع هي نفسها واقعية أو “موضوعية” وليست نتاجًا لبعض “الشخص” أو الشخصية المعقولة التي تم تشكيلها سابقًا ولكنها جزء لا يتجزأ من عالم ليس بالتأكيد تمثيلي، ونظرًا لأنّ مشاريعي هي من أكون في وضع وكالة ملتزمة (على عكس الخطط التي أمثلها لنفسي فقط في المداولات العاكسة)، فإنّ العالم إلى حد ما يكشف لي من أنا.

ومع ذلك نظرًا لأنه لا بد من الكشف عن العالم بطريقة معينة فإنّه يمكن اكتشاف هذا المعنى “هويتي” الخاصة من خلال ما يسميه سارتر “التحليل النفسي الوجودي”، ومن خلال فهم أنماط سلوك الفرد أي من خلال إعادة بناء العالم ذي المعنى الذي يكشف عنه مثل هذا السلوك، كما ويمكن للمرء أن يكشف عن “المشروع الأساسي” أو الاختيار الأساسي للذات الذي يعطي شكلاً مميزًا لحياة فردية.

يمثل التحليل النفسي الوجودي نوعًا من التسوية بين منظوري الشخص الأول والثالث: مثل الأخير فإنه يجسد الشخص ويعامل آفاقه العملية المفتوحة على أنّها مغلقة بمعنى ما، ومع ذلك مثل السابق فإنّه يسعى إلى فهم الخيارات من الداخل لفهم هوية الفرد كمسألة معنى الشخص الأول الذي يطارده وليس كوظيفة لآليات نفسية خاملة يمتلكها الفرد ولا يوجد معارف.


شارك المقالة: