الفيلسوف روجر بيكون وقيمة الرياضيات وطبيعته

اقرأ في هذا المقال


الأدب الثانوي ليس مواتيًا تمامًا لإنجازات الفيلسوف روجر بيكون في الرياضيات، ومن المتفق عليه بشكل عام أنّ بيكون لم يكن عالم رياضيات مبدعًا، ومع ذلك فمن المسلّم به على نطاق واسع أنّ بيكون كان يقرأ جيدًا ولديه فهم قوي للمصادر القياسية لرياضيات القرن الثالث عشر، وكانت أصالة بيكون في أفكاره حول الرياضيات أكثر منها في ابتكاراته النظرية.

الرياضيات ككائن وتقسيمه:

تبنى بيكون وجهة نظر أرسطية تجريدية لأشياء التحقيق الرياضي، والرياضيات هي العلم الذي يتعامل مع الأشياء التي كان مبدأها الكمية، وعلى الرغم من ذلك كان لا بد من استخلاص شكل الكمية من الحركة والمادة المادية قبل أن يتم التحقيق فيها عن طريق الحساب أو الهندسة، على الرغم من وجود الكمية في المادة إلّا أنّ الكمية في الرياضيات تعتبر مستخلصة من المادة والحركة.

لقد أصر بيكون مع ذلك على أنّه في هذا الإجراء التجريدي لا يخاطر الخيال بفرض وجود الكم في حد ذاته بطريقة الشكل الأفلاطوني، وهذا من شأنه أن يبطل الغرض من البحث الرياضي الذي يتم إجراؤه لأسباب نفعية، وعلى وجه التحديد من أجل الكمية المادية وليس من أجل الكمية نفسها.

أحد العناصر التي تبرز في تأملات بيكون حول الرياضيات له علاقة بتقسيم العلوم الرياضية، والذي تم تقديمه بشكل أساسي في التمييز الثالث له في الرياضيات المشتركة (Communia Mathematica)، ولأغراض تربوية اعتقد بيكون أنّه من المهم التمييز بين فرعين رئيسيين للدراسة الرياضية:

1- الفرع الأول يتعامل أحد الفروع مع الموضوعات العالمية للرياضيات من حيث عناصرها وجذورها، ويمكن تسميته بالرياضيات الشائعة.

2- الفرع الثاني فيتناول المجالات المتخصصة في الهندسة والحساب والموسيقى وعلم الفلك.

ينقسم الفرع الرئيسي الثاني للرياضيات إلى قسمين رئيسيين:

  • جزء تخميني.
  • جزء عملي.

بعد ذلك يمكن رؤية كل من العلوم الرياضية المناسبة وفقًا لبيكون ليكون لها جانب تخميني بالإضافة إلى جانب عملي، على سبيل المثال بينما يعتبر الجزء التخميني من الهندسة الكمية المتجاورة إزالتها من أي مخاوف عملية، فإنّ الجزء العملي من الهندسة يطبق رؤى هندسية على المصالح التشغيلية الملموسة في كلتا الحالتين، ويجب أن تسبق المضاربة الممارسة، ممّا يعني أنّ بيكون يعتبر النظرية الرياضية خاضعة إلى الممارسة التكنولوجية.

يعتبر افتراض الرياضيات العامة العنصر الأكثر أصالة في قسم الرياضيات لدى بيكون، وفي هذا السياق وجّه بيكون نقدًا لعناصر إقليدس على الرغم من حقيقة أنّه يعتقد أنّ إقليدس كان مرجعًا مهمًا في تاريخ الرياضيات.

مرة أخرى بالنسبة لبيكون فإنّ:

  •  الرياضيات هي العلم الذي يتعامل مع الكمية.
  • تتعامل الأجزاء المتخصصة المختلفة في الرياضيات مع أنواع مختلفة من الكم.
  • يتعامل الحساب والموسيقى مع الكميات المنفصلة مثل الأرقام.
  • تتعامل الهندسة وعلم الفلك مع الكميات المستمرة مثل الخطوط.

ومع ذلك لا يمكن فهم مفهوم الكمية بشكل عام دون فهم معنى المفاهيم ذات الصلة مثل محدود ولانهائي وموضع ومتجاور.

انتقد بيكون إقليدس لكونه غافلاً عن معالجة شاملة لهذه المفاهيم، ويمكن إجراء مثل هذا العلاج من خلال فصل مجال من الرياضيات المشتركة التي تتعامل مع الكمية بشكل عام، ويمكن التعبير عنها من خلال المبادئ الأساسية المشتركة بين جميع الرياضيات.

الصلة المنهجية للرياضيات:

تتمثل مقولة بيكون المفضلة في الأمور العلمية في التأكيد على فائدة كل علم، وأدى ذلك به إلى إخضاع البحث العلمي للاحتياجات والمصالح الروحية والعملية للبشر، ونظرًا لأنّ فائدة العلم بالنسبة لبيكون مرتبطة بنهايته فإنّ النهاية تحدد اختيارات المحتوى والشكل لكل علم، وبمعنى آخر لا يهم فقط ما تمت دراسته ولكن أيضًا كيفية تقديم نتائج تلك الدراسات لأولئك الذين يحتاجون إلى التعليمات.

في هذا الصدد الرياضيات ليست استثناء، واتسم جزء كبير من تأملات بيكون في الرياضيات بهذا النهج النفعي، وليس من المستغرب إذن أنّ بيكون اعتبر الرياضيات ليس لها قيمة جوهرية، ووفقًا لبيكون فإنّ التخصصات الرياضية لها قيمة مفيدة فقط، ولا ينبغي أن تكون ممارسة الرياضيات بأي حال من الأحوال استفسارًا نظريًا بحتًا.

ومع ذلك مع التأكيد على اقتناع بيكون بأنّ الرياضيات ليس لها قيمة جوهرية، ولا ينبغي إغفال أن بيكون اعتبر الدراسة الرياضية مفيدة من الناحية العملية لجميع العلوم الأخرى بما في ذلك علم اللاهوت، وفي الواقع يكرس الجزء الرابع بأكمله تقريبًا من كتابه العمل العظيم لعرض فائدة الرياضيات في الأمور العلمانية والإلهية.

وفقًا لبيكون الرياضيات هي البوابة والمفتاح للعلوم الأخرى، واعتبر بيكون أنّ فهم الحقيقة الرياضية من بين الخطوات الأولى في ترتيب الإدراك، والأشياء الرياضية بطبيعتها أكثر قابلية للمعرفة من قبلنا، لذلك يجب أن يبدأ تعلمنا بهذه الأشياء، وفي الواقع ذهب بيكون إلى الادعاء بأنّ أي عالم جاهل بالرياضيات لا يمكن أن يكون لديه معرفة معينة بالعلوم الأخرى أو الأمور الدنيوية.

أكد بيكون أنّ الرياضيات دربت العقل على الدراسة المستقبلية ورفعت درجة المعرفة التي اكتسبها العقل إلى مستوى اليقين، وبمعنى آخر من أجل ممارسة العلوم الأخرى بمستوى مناسب من التطور أو على الإطلاق فإن الرياضيات هي المطلوبة، وإذا كان هدف العالم هو فهم العالم المادي حقًا فعليه أن يستخدم الرياضيات، وهذا يعني أنّه على الرغم من أنّ الرياضيات حيوية من الناحية المعرفية لتقدم العلوم الأخرى، إلّا أنّها ليست ملكتهم من حيث إملاء الغايات، وفي ترتيب التعلم يتم ترتيب الرياضيات في النهاية الدنيا.

عندما صرح بيكون أنّ الدراسة العلمية تسعى للوصول إلى حقائق عن العالم فإنّ مصطلح الحقيقة يشير إلى نوع من المعرفة في الفضيلة، ويصبح العقل البشري مسالمًا في سعيه العلمي، وللوصول إلى هذه الحالة يتطلب خبرة مبنية على المعنى الذي تجلب حقيقة الاستنتاجات العلمية وجهاً لوجه مع العالم.

من وجهة نظر بيكون تخضع الرياضيات أيضًا للقاعدة العامة القائلة بأنّ البعد التجريبي ضروري للمعرفة الصحيحة، مثلًا لكي تفهم الطالبة تمامًا إثبات المثلث الإقليدي متساوي الأضلاع، فإنها تحتاج إلى رؤيته قيد الإنشاء بالفعل، ومع ذلك فليس الأمر ببساطة هو أنّ الرياضيات تتطلب التحقق من استنتاجاتها من خلال المساعدة في التجربة، كما لو أنّ هذا النوع من الخبرة كان خارج الإجراء الرياضي.

يكمن السبب وراء كون الإجراءات الرياضية ضامناً لليقين العلمي وفقاً لبيكون في حقيقة أنّ الخبرة الحسية جزء لا يتجزأ منها، وفي الرياضيات هناك إثباتات ضرورية لأنّ المضي قدمًا عن طريق السبب الضروري يحقق الحقيقة الكاملة والمؤكد دون أخطاء، بالإضافة إلى ذلك تحتوي الرياضيات على شهادة الخبرة كعنصر جوهري في عملياتها الأساسية، وبقدر ما تحتوي على امثلة واختبارات يمكن أن تدركها الحواس مثل رسم الأرقام أو العد.

وهكذا بالنسبة لبيكون لكي يدرك العقل البشري الحقيقة، فإنّه يتطلب التحرر من الخطأ والشك وكلاهما يمكن للرياضيات توفيرهما بسبب ارتباطه بالتجربة، وتم تطوير إمكانات الشهادة للخبرة بشكل أكبر من قبل بيكون في الجزء السادس من كتابه العمل العظيم تحت اسم الكرامة الأولى للعلوم التجريبية.

الصلة الفيزيائية للرياضيات:

يمكن اعتبار بيكون من بين العلماء الأوائل الذين أكدوا على الأهمية المادية للرياضيات، ويحتوي منطق بيكون للتأكيد على الأهمية المادية للرياضيات على عناصر معرفية، ولكنه يحتوي أيضًا على عناصر ميتافيزيقية والتي لها علاقة بالطريقة التي تصور بها بيكون بنية العالم المادي.

ذكر بيكون أنّ كل شيء موجود في الطبيعة نشأ عن طريق سببين:

1- السبب الفعال.

2- السبب المادي.

ولفهم الفاعلية الفيزيائية الناتجة عن الأسباب الفعالة يتطلب الرياضيات، وذلك لأنّ العمليات الفيزيائية تحدث عن طريق القوى أو الأنواع مثل الضوء التي تعمل من خلال الأشعة، وليس فقط الفاعلية الجسدية ولكن الوكالة النفسية تتطلب الرياضيات أيضًا لفهمها، وبالنسبة لبيكون الضوء هو مثال على الفاعلية المادية من خلال القوى أو الأنواع التي تتبع القواعد الهندسية للانعكاس والانكسار، حيث إنّها حالة مميزة لهذه الوكالة بسبب ظهورها.

هنا أيضًا وضع سبب تضمين علم الضوء والرؤية (المنظور) في نظرية تكاثر الأنواع، وإذا أراد الفيلسوف الطبيعي شرح العمليات الطبيعية فعليه التركيز على خطوط الفعل الجسدي واستخدام الأساليب الرياضية، كما يجب أن تتبع الفلسفة الطبيعية مبدأ الحركة والراحة، والذي يتضمن حالات التغيير والأنواع التي تتبع المبادئ الهندسية.

المصدر: Roger BaconRoger Bacon (1214–1292)Adamson, Robert, 1876, Roger Bacon: The Philosophy of Science in the Middle Ages, Manchester.Carton R (1923) L’experience physique chez Roger Bacon. J. Vrin, Paris


شارك المقالة: