الفيلسوف والتر بنيامين

اقرأ في هذا المقال


يمكن قياس أهمية والتر بنيامين كفيلسوف ومنظر نقدي من خلال تنوع تأثيره الفكري والإنتاجية المستمرة لفكره، ويعتبر الأساس الفلسفي لكتابات بنيامين الذي يُنظر إليه في المقام الأول على أنّه ناقد أدبي وكاتب مقالات معروفًا بشكل متزايد، ولقد كان لها تأثير حاسم على مفهوم ثيودور لودفيج فيزنجروند أدورنو لواقعية الفلسفة أو ملاءمتها للحاضر، وفي الثلاثينيات من القرن الماضي أثبتت جهود بنيامين لتطوير نظرية جمالية مادية ذات توجه سياسي حافزًا مهمًا لكل من مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية والشاعر الماركسي والدرامي بيرتولت بريخت.

السيرة الذاتية للفيلسوف بنيامين:

ولد والتر بنديكس شوينفليس بنيامين في 15 حزيران 1892، وهو الابن الأكبر لثلاثة أطفال في عائلة مزدهرة في برلين من أصول يهودية مندمجة، وفي سن الثالثة عشر بعد فترة طويلة من المرض تم إرسال بنيامين إلى مدرسة داخلية تقدمية مختلطة في هوبيندا في تورينجيا، حيث شكل قرابة فكرية مهمة مع المصلح التعليمي الليبرالي جوستاف وينكن.

يعد رجل أدبي وخبير تجميل، ويُعتبر الآن أهم ناقد أدبي ألماني في النصف الأول من القرن العشرين، ودرس الفلسفة في برلين وفرايبورغ ام بريسغاو وميونيخ وبرن، واستقر في برلين عام 1920 وعمل بعد ذلك ناقدًا ومترجمًا أدبيًا، بعد ذلك استقر بنيامين أخيرًا في باريس بعد مغادرة ألمانيا عام 1933 عند صعود النازيين إلى السلطة، وواصل كتابة المقالات والمراجعات للمجلات الأدبية.

ولكن بعد سقوط فرنسا في أيدي الألمان في عام 1940 هرب جنوبًا على أمل الهروب إلى الولايات المتحدة عبر إسبانيا، بعد إبلاغه من قبل رئيس الشرطة في بلدة بور بو (Port Bou) على الحدود الفرنسية الإسبانية أنّه سيتم تسليمه إلى الجستابو ولكن انتحر بنيامين في 27 أيلول في عام 1940.

فكر وكتابات بنيامين الفلسفية:

عند عودة بنيامين إلى برلين بدأ في المساهمة في مجلة البداية (Der Anfang)، وهي مجلة مخصصة لمبادئ وينكن حول النقاء الروحي للشباب، وهي مقالات تحتوي في شكل جنيني على أفكار مهمة عن التجربة والتاريخ والتي لا تزال تشغل فكره الناضج، وكطالب في جامعتي فرايبورغ ام بريسغاو وبرلين حضر بنيامين محاضرات للفيلسوف الكانطي الجديد هاينريش ريكرت وعالم الاجتماع جورج سيميل، بينما استمر في المشاركة بنشاط في حركة الشباب المتنامية.

لكن في عام 1914 شجب بنيامين معلمه وانسحب من الحركة ردًا على محاضرة عامة أشاد فيها وينكن بالتجربة الأخلاقية التي أتاحها اندلاع الحرب للشباب، وفي عام 1915 بدأت صداقة بين بنيامين وجيرهارد (لاحقًا غيرشوم) شوليم وهو طالب زميل في برلين، وسيكون لهذه العلاقة تأثير مدى الحياة على علاقة بنيامين باليهودية والقبالية، لا سيما في تفسيراته لكافكا في أوائل الثلاثينيات وفي التفسير المسياني لرسمة بول كلي أنجيلوس نوفوس في أطروحاته اللاحقة حول مفهوم التاريخ، وسيثبت شولم دوره الأساسي في إنشاء وتشكيل إرث أعمال بنيامين جزئيًا بعد وفاته.

مُنحت أطروحة الدكتوراه لبنيامين عن مفهوم النقد الفني في الرومانسية الألمانية بامتياز مع مرتبة الشرف من جامعة برن في سويسرا في عام 1919، وبدأ مقالته الشهيرة عن رواية جوته عن الانجذاب الاختياري بعد فترة وجيزة وطبقت نظرية النقد الفني التي تطورت في أطروحته، وقد تأهل بنيامين عن أصل مسرحية الحداد الألمانية (Ursprung des deutschen Trauerspiels) -وهي الأطروحة التي كانت ستمكّنه من أن يصبح أكاديميًا محترفًا- وكان يخشى مع وفاة حليفه الفكري اللاهوتي البروتستانتي فلورينس كريستيان رانج الذي كان فقد القارئ المناسب.

في عام 1925 أُجبر على سحب رسالته من جامعة فرانكفورت أم ماين ومعها إمكانية الحصول على منصب أكاديمي في المستقبل، ومع ذلك على الرغم من هذا الفشل الأكاديمي ظهر مقتطف من العمل في مجلة أدبية بعد ذلك بعامين وتم نشر الكتاب في العام التالي 1928، وسرعان ما حظي باهتمام كبير في عدد من الصحف والدوريات المرموقة في ألمانيا وخارجها، وفي مفارقة ساخرة أصبحت دراسة التأهيل الفاشلة لبنيامين موضوعًا لدورة دراسية تدرس في جامعة فرانكفورت من قبل تيودور فيزنجروند (لاحقًا ثيودور لودفيج فيزنجروند أدورنو).

اكتمل جزء كبير من كتابة أطروحته في عام 1924 في جزيرة كابري الإيطالية حيث تراجع بنيامين لأسباب مالية، ومع ذلك ستكون الإقامة حاسمة حيث التقى هنا بالمنتج المسرحي البلشفي اللاتفي أسجا ليسيس (Asja Lacis) الذي بدأ معه علاقة محبطة جنسيًا ولكنها مثمرة فكريًا، وتمت كتابة نابولي (Naples) بالاشتراك مع ليسيس في عام 1925.

بينما تم كتابة شارع باتجاه واحد (One-Way Street)، وهي مجموعة شبه بنائية من الأجزاء المكتوبة بين 1923-1926 وخصصت لليسيس عند نشرها في عام 1928، وبدأ مشروع الممرات (Arcades) غير المكتمل في أواخر عشرينيات القرن الماضي، فكلاهما يعرض تجربة حداثية مع شكل يمكن أن يُعزى جزئيًا إلى تأثير ليسيس، وتضاعف تحوله الماركسي نحو المادية التاريخية من خلال دراسته الحماسية لتاريخ جورج لوكاش والوعي الطبقي أثناء تواجده في كابري وزيارته إلى لاسيس في موسكو السوفيتية في شتاء للأعوام من 1926 إلى عام 1977.

بحلول أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي كان بنيامين منخرطًا عن كثب في الخطط الخاصة بدورية يسارية بعنوان (أزمة ونقد)، وبالتعاون مع إرنست بلوخ وسيغفريد كراكور وآخرين والشاعر الماركسي والكاتب المسرحي والمخرج المسرحي بيرتولت بريخت، وقد تم تقديم بنيامين إلى بريخت من قبل ليسيس في عام 1929 وعلى مدى العقد التالي طور صداقة شخصية وثيقة، حيث تم ترسيخ الصلات الأدبية والسياسية في ظل الظروف الصعبة للمنفى السياسي.

أجرى بنيامين سلسلة من الدراسات حول المسرح الملحمي لبريخت وصمم البرامج الإذاعية التي كتبها وقدمها خلال هذه الفترة بناءً على تجارب الأخير في التعليم المسرحي، وفي عام 1933 غادر بنيامين ألمانيا النازية للمرة الأخيرة بعد أدورنو وبريشت والعديد من الأصدقاء اليهود الآخرين إلى منفى قسّمه بين باريس وإيبيزا وسان ريمو ومنزل بريخت بالقرب من سفينبورغ في الدنمارك.

خلال الثلاثينيات من القرن الماضي قدم معهد البحوث الاجتماعية في هذه المرحلة تحت إدارة هوركهايمر ونُفي من قاعدته في جامعة فرانكفورت، لبنيامين فرصًا مهمة للنشر بالإضافة إلى راتب مالي ضروري بشكل متزايد، وكان ثيودور أدورنو الذي تعرَّف إلى بنيامين قبل عقد من الزمان من قبل صديق مشترك سيغفريد كراكور فعالاً في تأمين هذا الدعم.

كانت إحدى النتائج المهمة لهذا الاعتماد مع ذلك هي التنقيحات التحريرية التي تعرضت فيها المقالات الرئيسية التي طوّر بنيامين نظريته المادية للفن، مثل (عمل الفن في عصر استنساخه التقني) وتلك المتعلقة ببودلير وباريس التي انبثقت عن مشروع الممرات.

مع اندلاع الحرب عام 1939 احتُجز بنيامين مؤقتًا في معسكرات الاعتقال الفرنسية التي أُنشئت للمواطنين الألمان، وعند إطلاق سراحه بعد بضعة أشهر عاد إلى باريس وهناك واصل عمله في المكتبة الوطنية على مشروع الممرات، وتُركت ملاحظات بحثه غير المكتمل في حراسة أمين المكتبة والصديق الكاتب جورج باتاي، حيث فرّ بنيامين من باريس قبل تقدم الجيش الألماني في صيف عام 1940.

تعكس الأشهر القليلة الماضية من حياة بنيامين التجربة المحفوفة بالمخاطر لعدد لا يحصى من اليهود الألمان الآخرين في فيشي فرنسا، أي رحلة إلى الحدود والاستعدادات للهجرة بوسائل قانونية أو غير قانونية، ولأنّه يفتقر إلى تأشيرة الخروج اللازمة من فرنسا فقد انضم إلى مجموعة إرشادية عبرت جبال البيرينيه في محاولة لدخول إسبانيا كلاجئين غير شرعيين، وبعد أن رجع مسؤولو الجمارك إلى الخلف انتحر بنيامين في عام 1940.


شارك المقالة: