الماء في الشعر العباسي

اقرأ في هذا المقال


إن فترة العصر العباسي كانت تعجّ بأشكال الحضارة وأنماط المعرفة فقد تأثر رواد الكلام المنظوم بالتقدم الحضاري وجعلهم يتناولون صورة البيئة عندهم، وخصوصًا الماء فراحوا يصورون واقعهم ويعبرون عنه وبما أن البيئة العباسية بيئة خضراء كثيرة المياه فلا بد أن يتأثر بها الشاعر، فهي ملهمة له فتوجه إلى وصفها ورسمها بأجمل اللوحات وفي هذا المقال سنتناول الماء في هذه الفترة وكيف عبروا عنه في أشعارهم.

الماء في الشعر العباسي

أثرت الثقافة والتطور الحضاري في نفوس رواد الكلام المنظوم وعقولهم مما دفعهم إلى الرُقي في البيئة التي تحيط بهم، وهندسوها وزخرفوها واستجدَّ عندهم نوع جديد من الكلام المنظوم أسْموه المائيات والثلجِيات، ومن هنا برزت ملامح الكلام المنظوم المائي واتضحت معالمة وأصبح شكلاً جديدًا في الشعر.

مما شك فيه أن البيئة وتضاريسها وحياة الرفاهية تجلّت بصور رواد الكلام المنظوم وتشبيهاتهم وانبثقت عنها صور من الخيال، واستفادوا من تجارب الأمم السابقة والنظرة الفلسفية التي انتشرت في تلك الفترة ومثال على ذلك تأثر أبو تمام ورسمه أجمل اللوحات للربيع ذاكرًا المطر قائلاً:

غَيثانِ فَالأَنواءُ غَيثٌ ظاهِرٌ

لَكَ وَجهُهُ وَالصَحوُ غَيثٌ مُضمَرُ

وَنَدىً إِذا اِدَّهَنَت بِهِ لِمَمُ الثَرى

خِلتَ السِحابَ أَتاهُ وَهُوَ مُعَذِّرُ

أَرَبَيعَنا في تِسعَ عَشرَةَ حِجَّةً

حَقّاً لَهِنَّكَ لَلرَبيعُ الأَزهَرُ

وتوجه رواد الكلام المنظوم في تلك الفترة إلى أسلوب التشخيص كالبحتري وأبو تمام الذي ينشد:

مِن كل زَاهِرَة ٍ تَرقْرَقُ بالنَّدَى

فكأنها عينٌ عليهِ تحدرُ

تَبْدُو وَيحجُبُها الجَمِيمُ كأنَّها

عَذْرَاءُ تَبْدُو تارَة ً وتَخَفَّرُ

حتَّى غَدَتْ وَهَدَاتُها ونِجَادُها

فِئتيْنِ في خِلَعِ الرَّبيع تَبَخْتَرُ

مُصْفَرَّة ً مُحْمَرَّة ً فكأنَّها

عُصَبٌ تَيَمَنُّ في الوَغَا وتَمَضَّرُ

كما نرى أن قلة من رواد الكلام المنظوم من لم يلتفت إلى المطر ويصوره في مقطُوعاتهم، ومثال على ذلك علي بن الجهم الذي تفوق في إنزال المطر في محيط الحب ويقول في ذلك:

أَتَتنا بِها ريحُ الصَبا وَكَأَنَّها

فَتاةٌ تُزَجّيها عَجوزٌ تَقودُها

تَميسُ بِها مَيساً فَلا هِيَ إِن وَنَت

نَهَتها وَلا إِن أَسرَعَت تَستَعيدُها

إِذا فارَقَتها ساعَةً وَلِهَت بِها

كَأُمِّ وَليدٍ غابَ عَنها وَليدُها

فَلَمّا أَضَرَّت بِالعُيونِ بُروقُها

وَكادَت تُصِمُّ السامِعينَ رُعودُها

وكذلك توجهوا إلى رسم الرحلات النهرية بأجمل اللوحات على متن السفن التي كانت وسيلتهم للتنقل في هذه الأنهار ومثال على ذلك وصف أبي الشيص لرحلته بواسطة السفينة:

وَبحر يَحارُ الطَرفُ فيهِ قَطعَتُهُ

بِمَهنوءة مِن غَيرِ عُرٍّ وَلا جَرب

مُلاحَكةِ الأَضلاعِ مَحبوكة القَرى

مُداخِلةِ الرَاياتِ بالقارِ والخَشَب

موثَّقة الأَلواح لَم يُدم متنَها

ولا صَفحتيها عَقدُ رَحلٍ وَلا قَتب

ومعهم من عبر عن رحلته النهرية وأسهب بذكر سمات النهر وأمعن في السفينة وذكر لونها وكيفية صنعها ومثال على ذلك قول مسلم بن الوليد:

وَمُلتَطِمُ الأَمواجِ يَرمي عُبابُهُ

بِجَرجَرَةِ الآذِيِّ لِلعِبرِ فَالعِبرِ

مُطَعَّمَةٍ حِيتانُهُ ما يُغِبُّها

مَآكِلُ زادٍ مِن غَريقٍ وَمِن كَسرِ

إِذا اِعتَنَقَت فيهِ الجَنوبُ تَكَفَّأَت

جَواريهِ أَو قامَت مَعَ الريحِ لا تَجري

كَأَنَّ مَدَبَّ المَوجِ في جَنَباتِها

مَدَبُّ الصَبا بَينَ الوِعاثِ مِنَ العُفرِ

وهذا أبو تمام يتعمق في وصفه لرحلته في الأنهار ويصف الخشب الذي صنعت منه هذه السفينة قائلاً:

حَمَلَت رَجايَ إِلَيكَ بِنتُ حَديقَةٍ

غَلباءُ لَم تُلقَح لِفَحلٍ مُقرِفِ

نُتِجَت وَقَد حَوَتِ الهُنَيدَةَ وَاِبتَنَت

في شَطرِها وَتَبَوَّعَت في النَيِّفِ

وابن الرومي يتوجه إلى وصف رحلته إلى الممدوح ويوضح خوفه من هذه المغامرة عبر النهر قائلاً:

ذكرتُكَ حين ألقتْ بي عصاها الـ

ـنَوى بالنهرِ نهرِ أبي الخصيبِ

وقد أرستْ بنا في ضَفَّتَيهِ الـ

جواري المنشآت مع المغيبِ

غدونَ بنا ورُحْنَ محمَّلاتٍ

قلوباً مُوقَرَاتٍ بالكُروبِ

من الظواهر البيئية الجديدة التي شاهدها رواد الكلام المنظوم وتأثَّروا بها وتناولها في أبياتهم بعد أن كانوا معتادين على وصف الصحراء التي عاشوا فيها سابقًا، وهي ظاهرة الثلج ومن البديهي أن يتأثر رواد الكلام المنظوم بهذه الظاهرة ومثال عليهم الصنوبري حين قال:

ألم ترَ كيف قد لبستْ رُباها

من الثلجِ المضاعَفِ أيَّ لبس

ثياباً لا تزالُ تذوبُ ليناً

إذا الأيدي عرَضْنَ لها بِلمس

كأنّ الغيمَ مما بثَّ منه

على أرجائها أندافُ برس

كما تناولوا صور المطر ووصفوها بأجمل الوصوف ومنهم امرؤ القيس قائلاً:

لَها وَثَباتٌ كَصَوبِ السِحابِ

فَوادٍ خِطاءٌ وَوادٍ مُطِر

تعدو كعدو النجاة الظبا

ء أخطائها الحاذف المقتدر

كما استعمل رواد الكلام المنظوم في ذلك الوقت المطر وجعلوها في كلامهم بما يتناسب مع الوضع، ومثال عليه قول أبو تمام واصفًا المطر في مدح المتوكل:

مَطَرٌ يَذوبُ الصَحوُ مِنهُ وَبَعدَهُ

صَحوٌ يَكادُ مِنَ الغَضارَةِ يُمطِرُ

غَيثانِ فَالأَنواءُ غَيثٌ ظاهِرٌ

لَكَ وَجهُهُ وَالصَحوُ غَيثٌ مُضمَرُ

وَنَدىً إِذا اِدَّهَنَت بِهِ لِمَمُ الثَرى

خِلتَ السِحابَ أَتاهُ وَهُوَ مُعَذِّرُ

ونراه في أبيات أخرى يضع المطر حجة أنها كانت عائقًا أمامه ولم يتمكن من وصل ممدوحه قائلاً:

مَنَعَ الزِيارَةَ وَالوِصالَ سَحائِبٌ

شُمُّ الغَوارِبِ جَأبَةُ الأَكتافِ

ظَلَمَت بَني الحاجِ المُهِمِّ وَأَنصَفَت

عَرضَ البَسيطَةِ أَيَّما إِنصافِ

فَأَتَت بِمَنفَعَةِ الرِياضِ وَضَرِّها

أَهلَ المَنازِلِ أَلسُنُ الوُصّافِ

وَعَلِمتُ ما لَقِيَ المَزورُ إِذا هَمَت

مِن مُمطِرٍ ذَفِرٍ وَطينِ خِفافِ

وهذا ابن المعتز يتحدث عن حجب المطر له ومنعه من زيارة من يريد، ولكنه أفاد الأرض بنزوله ويقول في ذلك:

يا أَرضَ عَمروٍ جَدَتكِ أَمطارُ

فيكِ لِقَلبي ما عِشتُ أَوطارُ

يا طِيبَ رَيّاكِ حينَ يَبتَسِمُ ال

فَجرُ وَفيها لِلرَوضِ أَخبارُ

وَمَجلِسٍ جَلَّ أَن نُشَبِّهَهُ

حَيثُ بِهِ مِزهَرٌ وَمِزمارُ

وكذلك قول الصنوبري في وصف ذلك بأسلوب رائع سلس مفهوم للمتلقي دون جهد ويقول:

اشـرب الراحَ بـكـرةً بـالكـبـيرِ

واصـطـحـبـهـا غـداةَ يـومٍ مـطيرِ

مـن عُـقـارٍ ألذَّ مـن نكهةِ الوردِ 

وأَصـفَـى مـن دمـعـةِ المهجور

كما استعمل رواد الكلام المنظوم في هذه الفترة كلمة الغيث في مقطوعاتِهم ومثال عليه قول أبو تمام:

سَقى الغَيثُ غَيثاً وارَتِ الأَرضُ شَخصَهُ

وَإِن لَم يَكُن فيهِ سَحابٌ وَلا قَطرُ

وَكَيفَ اِحتِمالي لِلسَحابِ صَنيعَةً

بِإِسقائِها قَبراً وَفي لَحدِهِ البَحرُ

وهذا البحتري يستخدم الغيث ليتباهى بقومه قائلاً:

أَنّا لُيوثٌ حينَ تَشتَجِرُ القَنا

غُيوثٌ إِذا ضَنَّ السَحائِبُ بِالقَطرِ

وَإِنّا لَمَشّاؤونَ تَحتَ سُيوفُنا

إِلى المَوتِ مَعروفونَ بِالبَأسِ وَالنَصرِ

وأيضًا ابن الرومي واصفًا البيئة مستخدمًا لفظ الغيث بقوله:

لهوتُ عن وصف الطول الدارسَهْ

بروضِةِ عذراءَ غير عانسَهْ

جادتْ لها كل سماءٍ راجس

رائحة بالغيث أو مُغالسه

فأصبحتْ من كل وشيٍ لابسه

خضراءَ ما فيها خَلاة يابسة

وأبيات ابن المعتز مستخدمًا الغيث للتباهي والفخر قائلاً:

وَنَقولُ فَوقَ أَسِرَّةٍ وَمَنابِرٍ

عَجَباً مِنَ القَولِ المُصيبِ بَديعا

قَومٌ إِذا غَضِبوا عَلى أَعدائِهِم

جَرّوا الحَديدَ أَزِجَّةً وَدُروعا

حَتّى يُفارِقَ هامُهُم أَجسامَهُم

ضَرباً يُفَجِّرُ مِن دَمٍ يَنبوعا

كما استخدم رواد الكلام لفظ القَطْرُ في مقطوعاتِهم وعنها يقول البحتري يصور مكان اللهو والشرب ومعبرًا عنه بقطرات الماء قائلاً:

وَيَومٍ بِالمَطيرَةِ أَمطَرَتنا

سَماءٌ صَوبُ وابِلِها العُقارُ

نَزَلنا مَنزِلَ الحَسَنِ بنِ وَهبٍ

وَقَد دَرَسَت مَغانِهِ القِفارُ

ويظهر في أبيات الصنوبري في المدح مزجًا بين الألفاظ المائية والخمر ويقول:

خوط بان يميدُ أم غصن آسن

أرَّزته أردافها الدهاس

ومن الألفاظ المائية التي تم ذكرها في مقطوعات رواد الكلام المنظوم لفظ الشؤبوب هو المطر المتقطع الذي ينهمر على دفعات ومثال على ذلك ذكر النابغة الذبياني للشؤبوب قائلاً:

والخَيلَ تَمزَعُ غَرباً في أَعِنَّتِها

كَالطَيرِ تَنجو مِنَ الشُؤبوبِ ذي البَرَدِ

اِحكُم كَحُكمِ فَتاةِ الحَيِّ إِذ نَظَرَت

إِلى حَمامِ شِراعٍ وارِدِ الثَمَدِ

يَحُفُّهُ جانِبا نيقٍ وَتُتبِعُهُ

مِثلَ الزُجاجَةِ لَم تُكحَل مِنَ الرَمَدِ

وذكر أبو تمام هذه المفردة في أبياته قائلاً:

ديمَةٌ سَمحَةُ القِيادِ سَكوبُ

مُستَغيثٌ بِها الثَرى المَكروبُ

لَو سَعَت بُقعَةٌ لِإِعظامِ نُعمى

لَسَعى نَحوَها المَكانُ الجَديبُ

لَذَّ شُؤبوبُها وَطابَ فَلَو تَس

طيعُ قامَت فَعانَقَتها القُلوبُ

وأيضًا قول البحتري في مقطوعات المدح لديه:

أَنَّ أَبا جَعفَرٍ أَطالَ يَدي

بِنائِلٍ مِن نَداهُ مَوهوبِ

أَبيَضُ لا قَولُهُ بِمُقتَعَدٍ

فينا وَلا فِعلُهُ بِمَجنوبِ

سَرَت يَداهُ بِكُلِّ سارِيَةٍ

مِنَ النَدى ثَرَّةِ الشَآبيبِ

وفي النهاية نستنتج أن الظواهر المائية في البيئة في تلك الفترة كان لها حضور وتواجد في الكلام المنظوم لرواد الشعر، ولقد برعوا في تصوير هذه الظواهر موظفين مفردات الماء في مقطوعاتِهم، وسطع نجم العديد من رواد الكلام المنظوم في هذه الفترة مثل البحتري وأبو تمام وغيرهم الكثير.


شارك المقالة: