النهج الكلاسيكي في الفلسفة النفعية لجون ستيوارت ميل

اقرأ في هذا المقال


كان جون ستيوارت ميل (1806-1873) من أتباع بنثام، وخلال معظم حياته أعجب كثيرًا بعمل بنثام على الرغم من أنّه اختلف مع بعض ادعاءات بنثام لا سيما فيما يتعلق بطبيعة “السعادة“، وأكد أنّه لا توجد فروق نوعية بين الملذات وإنما فقط الاختلافات الكمية.

سبب اختلاف فلسفة ميل عن بنثام:

سعى ميل إلى إجراء تغييرات على النظرية طبيعة السعادة لبنثام والتي يمكن أن تستوعب الأنواع المختلفة من الحدس، حيث أنّ فلسفة بنثام تركته عرضة لمجموعة متنوعة من الانتقادات وذلك بسبب ما يلي:

  1. أولاً : كانت مذهب المتعة لدى بنثام مساواة للغاية، والملذات البسيطة والملذات الحسية كانت جيدة على الأقل جوهريًا من الملذات الأكثر تعقيدًا، ومن المؤكد أنّ متعة شرب الشاي أمام التلفاز لا تضاهي المتعة التي يحصل عليها المرء في حل مشكلة رياضية معقدة أو قراءة قصيدة أو الاستماع إلى موزارت.
  2. ثانيًا: إنّ وجهة نظر بنثام القائلة بأنّه لا توجد فروق نوعية في الملذات تركته أيضًا مفتوحًا للشكوى من أنّ الملذات البشرية من وجهة نظره ليست أكثر قيمة من الملذات الحيوانية.
  3. ثالثًا: ألزمته بالنتيجة الطبيعية المتمثلة في أنّ المكانة الأخلاقية للحيوانات مرتبطة بالنسبة لإحساسهم كان نفس شعور البشر، في حين أنّ إيذاء الجرو وإيذاء شخص ما أمران سيئان إلّا أنّ معظم الناس كان لديهم وجهة نظر مفادها أنّ إيذاء الشخص كان أسوأ، وسعى ميل إلى إجراء تغييرات على النظرية التي يمكن أن تستوعب تلك الأنواع من الحدس.

حدس الكمال وفلسفة ميل في مذهب المتعة:

تحقيقاً لهذه الغاية تأثرت مذهب المتعة من خلال حدس مؤيد الكمال، فهناك بعض الملذات الأكثر ملاءمة من غيرها، والملذات الفكرية هي أعلى وأفضل نوعاً ما من تلك الحسية فقط والتي نشاركها مع الحيوانات، وبالنسبة للبعض يبدو أنّ هذا يعني أنّ ميل لم يكن حقًا منفعيًا، ولقد انحرفت نظرته عن الخير بشكل جذري عن وجهة نظر بنثام، ومع ذلك مثل بنثام لا يزال الخير يكمن في المتعة ولا يزال حالة نفسية وهناك بالتأكيد هذا التشابه.

علاوة على ذلك فإنّ الهياكل الأساسية للنظريات هي نفسها في حين أنّه من الصحيح أنّ ميل أكثر ارتياحًا لمفاهيم مثل “الحقوق” فإنّ هذا لا يعني أنّه في الواقع رفض النفعية، والأساس المنطقي لجميع الحقوق التي يعترف بها هو المنفعة.

ومع ذلك فإنّ دليل ميل على الادعاء بأنّ الملذات الفكرية أفضل من غيرها هو أمر مشكوك فيه للغاية، وإنّه لا يحاول مجرد مناشدة الحدس الخام، وبدلاً من ذلك يجادل بأنّ هؤلاء الأشخاص الذين جربوا كلاهما ينظرون إلى الأعلى على أنّه أفضل من الأقل، ومن الذي يفضل أن يكون أحمقًا سعيدًا يعيش حياة طويلة للغاية من شخص يعيش حياة طبيعية؟ أو لاستخدام مثاله الأكثر شهرة: “من الأفضل أن يكون سقراط غير راضٍ بدلاً من راضٍ أحمق، وبهذه الطريقة تمكن ميل من حل مشكلة من أجل النفعية”.

جادل ميل أيضًا بأنّه يمكن إثبات المبدأ باستخدام حجة أخرى مشهورة:

“الدليل الوحيد الذي يمكن أن يُعطي أنّ الشيء مرئي هو أنّ الناس يرونه بالفعل وبنفس الطريقة، وأتفهم أنّ الدليل الوحيد الذي يمكن إثبات أنّ أي شيء مرغوب فيه هو أنّ الناس يرغبون في ذلك بالفعل، وإذا لم تكن الغاية التي تقترحها العقيدة النفعية لنفسها، ومن الناحية النظرية والممارسة المعترف بها على أنّها نهاية لا شيء يمكن أن يقنع أي شخص أنّها كانت كذلك”.


يواصل ميل بعد ذلك القول كما يلي:

“الناس يرغبون في السعادة (الغاية النفعية) وأنّ السعادة العامة هي خير لمجموع كل الأشخاص”.


انتقد جي إي مور (1873-1958) هذا باعتباره خاطئًا، ولقد جادل بأنّها تستند إلى غموض واضح فقال:

“استخدم ميل المغالطة الطبيعية بطريقة ساذجة وغير فنية كما يرغب أي شخص، ويخبرنا أنّ جيد يعني مرغوب فيه، ولا يمكنك معرفة ما هو مرغوب فيه فقط بالسعي لمعرفة ما هو مطلوب بالفعل، والحقيقة هي أنّ كلمة مرغوب فيه لا تعني يمكن أن تكون مرغوبة لأنّ مرئي يعني يمكن رؤيته، والمرغوبة تعني ببساطة ما يجب أن يكون مرغوبًا أو يستحق أن يكون مرغوبًا، حيث تمامًا كما أنّ المقيت لا تعني ما يمكن أن يكون ولكن ما يجب أن نكرهه”.

وتجدر الإشارة مع ذلك إلى أنّ ميل كان يعرض هذا كبديل لوجهة نظر بنثام التي تم انتقادها باعتبارها أخلاق الخنازير، وتحديد موقع الخير في المتعة بطريقة عشوائية، وإنّ الفروق التي يضعها تصدم الكثيرين باعتبارها معقولة بشكل حدسي.

ومع ذلك يمكن أن يستوعب بنثام العديد من نفس الحدس داخل نظامه، وهذا لأنّه يشير إلى أنّ هناك مجموعة متنوعة من المعلمات التي نقيس على طولها المتعة كميًا، فالشدة والمدة هما فقط اثنان منها، كما أنّ قائمته الكاملة هي التالية:

  • الشدة.
  • المدة.
  • اليقين أو عدم اليقين.
  • القرابة أو البعد.
  • الخصوبة.
  • النقاء.
  • المدى.

وبالتالي فإنّ ما يسميه ميل الملذات الفكرية سيحرز درجات أعلى من تلك الحسية على طول عدة معايير وهذا يمكن أن يعطينا سببًا لتفضيل تلك الملذات، ولكنه سبب كمي وليس سببًا نوعيًا من وجهة نظر بنثام.

فعندما تقرر إحدى الطالبات الدراسة لامتحان بدلاً من الذهاب إلى حفلة على سبيل المثال فإنّها تتخذ القرار الأفضل على الرغم من أنّها تضحي بالمتعة قصيرة المدى، ويرجع ذلك إلى أنّ الدراسة للامتحان كما يمكن أن يجادل بنثام تؤدي إلى درجات أعلى من حيث الملذات طويلة المدى التي تؤدي أداءً جيدًا في المدرسة فضلاً عن خصوبة المتعة في قيادة الملذات الأخرى، ومع ذلك سيتعين على بنثام الاعتراف بأنّ الأحمق السعيد الذي يعيش لفترة طويلة جدًا يمكن من حيث المبدأ أن يتمتع بحياة أفضل من الإنسان العادي.

فلسفة ميل النفعية والعقوبات الداخلية:

اختلفت نسخة ميل من النفعية عن بنثام أيضًا في أنّه وضع وزنًا على فعالية العقوبات الداخلية، كالمشاعر مثل الشعور بالذنب والندم التي تعمل على تنظيم أفعالنا، هذه صورة متفرقة لوجهة نظر مختلفة للطبيعة البشرية تبناها ميل، ونحن على أنواع الكائنات التي لدينا مشاعر اجتماعية ومشاعر للآخرين وليس لأنفسنا فقط، فنحن نهتم بهم وعندما ندرك ضررًا لهم فإنّ هذا يسبب لنا تجارب مؤلمة، وعندما يدرك المرء نفسه كعامل لهذا الضرر فإنّ المشاعر السلبية تتركز حول الذات، ويشعر المرء بالذنب لما فعله وليس لما يرى الآخر يفعله.

مثل أشكال العقاب الخارجية فإنّ العقوبات الداخلية مهمة جدًا بشكل فعال لاتخاذ الإجراءات المناسبة، حيث رأى ميل أيضًا أنّ السمات الطبيعية لعلم النفس البشري مثل الضمير والشعور بالعدالة تضمن الدافع، والإحساس بالعدالة على سبيل المثال ينتج عن دوافع طبيعية جدًا، وجزء من هذا المعنى ينطوي على الرغبة في معاقبة أولئك الذين أضروا بالآخرين وهذه الرغبة بدورها هي ثمرة تلقائية لعاطفين كلاهما طبيعي في أعلى درجة، حيث الدافع للدفاع عن النفس والشعور بالتعاطف.

بالطبع يتابع يجب أن يكون التبرير قضية منفصلة، والشعور موجود بشكل طبيعي ولكن إحساسنا “الموسع” وقدرتنا على تضمين رفاهية الآخرين في اعتباراتنا واتخاذ قرارات ذكية هو ما يمنحها القوة المعيارية الصحيحة.

فلسفة ميل النفعية وعلاقتها بالفلسفة السياسية والاجتماعية:

الفلسفة السياسية والمذهب النفعي لميل:

مثل بنثام سعى ميل إلى استخدام النفعية لإعلام القانون والسياسة الاجتماعية، والهدف من زيادة السعادة هو أساس حججه من أجل حق المرأة في التصويت وحرية التعبير، ويمكننا القول إذن أنّ لدينا حقوقًا معينة، ولكن هذه الحقوق مضمونة بواسطة المنفعة، وإذا استطاع المرء أن يثبت أنّ حقًا أو واجبًا مزعومًا ضارًا فهذا يعني أنّه قد أظهر أنّه غير حقيقي.

يمكن العثور على إحدى الحجج الأكثر شهرة لميلز في هذا الصدد في كتاباته حول حق المرأة في التصويت عندما يناقش الزواج المثالي بين الشركاء مشيرًا إلى أنّ المثل الأعلى موجود بين أفراد “الكليات المثقفة” الذين يؤثرون في بعضهم البعض بالتساوي، وكان تحسين الوضع الاجتماعي للمرأة أمرًا مهمًا لأنّها كانت قادرة على هذه الكليات المزروعة وحرمانها من الوصول إلى التعليم وفرص التنمية الأخرى يعد مصدرًا مهمًا للسعادة.

علاوة على ذلك فإنّ الرجال الذين يحرمون النساء من فرصة التعليم وتحسين الذات والتعبير السياسي يفعلون ذلك بدوافع أساسية والمتعة الناتجة ليست من النوع الأفضل.

الفلسفة الاجتماعية والمذهب النفعي لميل:

هاجم كل من بنثام وميل التقاليد الاجتماعية التي تم تبريرها من خلال مناشدات النظام الطبيعي والنداء الصحيح هو المنفعة نفسها، وغالبًا ما تبين أنّ التقاليد كانت من بقايا الأزمنة البربرية، وكانت مناشدة الطبيعة كشكل من أشكال التبرير مجرد طرق لمحاولة تبرير الاحترام المستمر لتلك الآثار.

في الجزء الأخير من القرن العشرين انتقد بعض الكتاب النفعية لفشلها في استيعاب تقييم الفضيلة، ومع ذلك على الرغم من أنّ الفضيلة ليست المفهوم المعياري المركزي في نظرية ميل إلّا أنّها مهمة للغاية، في الفصل الرابع من مذهب المنفعة لاحظ ميل ما يلي:

“هل تنكر العقيدة النفعية أنّ الناس يرغبون في الفضيلة أو يؤكدون أنّ الفضيلة ليست شيئًا مرغوبًا؟ بل العكس تماما، إنّها تحافظ ليس فقط على أنّ الفضيلة مرغوبة ولكن أيضًا أنّها مرغوبة بلا مبالاة لنفسها، وأيًا كان رأي الأخلاقيين النفعيين فيما يتعلق بالظروف الأصلية التي تجعل الفضيلة ذات تأثير، فهم لا يضعون الفضيلة في رأس الأشياء التي تعد جيدة كوسيلة لتحقيق الغاية النهائية فحسب بل يعترفون أيضًا بأنّها حقيقة نفسية وإمكانية أن تكون للفرد خيرًا في حد ذاتها دون النظر إلى أي غاية تتجاوزها، وتعتقد أنّ العقل ليس في حالة صحيحة وليس في حالة تتوافق مع المنفعة وليس في الحالة الأكثر ملاءمة للسعادة العامة إلّا إذا كان يحب الفضيلة بهذه الطريقة”.

في المذهب النفعي يجادل ميل بأنّ الفضيلة ليس لها قيمة أداتية أو آلية فحسب بل هي مكونة للحياة الجيدة،اولشخص الذي يفتقر إلى الفضيلة يفتقر إلى الأخلاق وليس قادرًا على تعزيز الخير، ومع ذلك فإنّ وجهة النظر هذه للفضيلة معقدة بسبب ملاحظات غامضة إلى حد ما أدلى بها ميل حول الفضيلة في كتابه نظام المنطق في القسم الذي يناقش فيه “فن الحياة” هناك يبدو أنّه يربط بين الفضيلة وعلم الجمال والأخلاق محفوظة في مجال الحق” أو الواجب.

يلاحظ ويندي دونر أنّ فصل الفضيلة عن الحق يسمح لميل بحل مشكلة أخرى للنظرية: مشكلة الإلحاح، وهذه هي المشكلة التي تنص على أنّه إذا كان علينا تعظيم المنفعة وإذا كان هذا هو الشيء الصحيح الذي يجب القيام به فإنّ فعل الصواب يتطلب تضحيات هائلة (في ظل ظروف فعلية)، وأنّ طلب مثل هذه التضحيات أمر صعب للغاية، ومع الواجبات من وجهة نظر ميل من المهم أن نحصل على الامتثال وهذا يبرر الإكراه، ومع ذلك في حالة الفضيلة فإنّ الأفعال الفاضلة هي تلك التي من أجل المصلحة العامة يجب أن تظل حرة.


شارك المقالة: