النهج الكلاسيكي لسلائف فلسفة المذهب النفعي

اقرأ في هذا المقال


على الرغم من أنّ أول حساب منهجي للنفعية تم تطويره بواسطة جيرمي بنثام (1748-1832) إلّا أنّ البصيرة الأساسية التي تحفز النظرية حدثت قبل ذلك بكثير، حيث هذه البصيرة هي أنّ السلوك المناسب أخلاقيًا لن يؤذي الآخرين بل يزيد من السعادة أو المنفعة، وما يميز النفعية هو نهجها في أخذ تلك البصيرة وتطوير حساب للتقييم الأخلاقي والتوجيه الأخلاقي الذي يتوسع فيه.
إنّ السلائف المبكرة لعلماء المنفعة الكلاسيكية تشمل الأخلاقيين البريطانيين كمبرلاند (Cumberland) وشافتسبري (Shaftesbury) وهاتشيسون (Hutcheson) وجاي (Gay) وهيوم (Hume)، ومن بين هؤلاء فرانسيس هتشسون Francis Hutcheson)1694-1746) حيث إنّه منفعي بشكل واضح عندما يتعلق الأمر باختيار الفعل.

جون جاي وفلسفته النفعية:

كان بعض المفكرين النفعيين الأوائل هم النفعيون (اللاهوتيون) مثل ريتشارد كمبرلاند (Richard Cumberland) وجون جاي (John Gay)، اللذين اعتقدوا أنّ تعزيز السعادة البشرية واجب علينا منذ أن وافق عليها الله، وبعد تعداد الطرق التي يخضع بها البشر للالتزامات (من خلال إدراك العواقب الطبيعية للأشياء والالتزام بأن نكون فاضلين، وأيضًا من خلال التزاماتنا المدنية التي تنشأ عن القوانين، ومن الالتزامات الناشئة عن “سلطة الله”) يكتب جون جاي:

“فمن خلال النظر في هذه الأنواع من الالتزام فمن الواضح أنّ الالتزام الكامل والذي يمتد إلى جميع الحالات يمكن أن يكون فقط هو الالتزام الناشئ عن سلطان الله، لأنّ الله يستطيع فقط في جميع الأحوال أن يجعل الإنسان سعيدًا أو بائسًا، وبالتالي بما أننا ملزمون دائمًا بهذا التوافق الذي يسمى الفضيلة فمن الواضح أنّ القاعدة أو المعيار المباشر لها هو إرادة الله “.

وهنا يرى جاي: “أنّه بما أنّ الله يريد سعادة البشرية وبما أنّ إرادة الله تعطينا معيار الفضيلة، حيث يمكن أن يقال إنّ سعادة البشرية هي معيار الفضيلة ولكن بمجرد إزالتها، وتم دمج هذا الرأي مع وجهة نظر الدافع البشري مع العناصر الأنانية، ويعتمد الخلاص الفردي للإنسان وسعادته الأبدية على الامتثال لإرادة الله وكذلك الفضيلة نفسها، وتزامن تعزيز السعادة البشرية وسعادة الفرد ولكن بالنظر إلى تصميم الله لم يكن ذلك من قبيل الصدفة.

ومع ذلك فإنّ هذا النهج إلى النفعية ليس نظيفًا من الناحية النظرية بمعنى أنّه ليس من الواضح ما هو العمل الأساسي الذي يقوم به الله على الأقل من حيث الأخلاق المعيارية، والله كمصدر للمعيارية متوافق مع النفعية لكن النفعية لا تتطلب ذلك.

يستحق تأثير جاي على الكتاب اللاحقين مثل هيوم، ولكن من المهم ملاحظة أنّه في مقال جاي تمت معالجة بعض الأسئلة التي كانت تهم هيوم حول طبيعة الفضيلة، فعلى سبيل المثال كان جاي فضوليًا حول كيفية شرح ممارستنا للاستحسان واستنكار الفعل والشخصية، وعندما نرى فعلًا شريرًا فإننا نرفضه.

وعلاوة على ذلك نربط أشياء معينة بآثارها بحيث نشكل روابط إيجابية وارتباطات سلبية تضمن أيضًا أحكامنا الأخلاقية، وبالطبع أن ننظر إلى السعادة بما في ذلك سعادة الآخرين على أنّها خير فهذا يرجع إلى تصميم الله، وهذه ميزة حاسمة للنهج اللاهوتي والتي من الواضح أنّ هيوم قد رفضها لصالح وجهة نظر طبيعية للطبيعة البشرية والاعتماد على تعاطفنا مع الآخرين وهو نهج توقعه شافتسبري، وتم تطوير النهج اللاهوتي للنفعية لاحقًا بواسطة وليام بالي (William Paley) ولكن عدم وجود أي ضرورة نظرية في مناشدة الله سيؤدي إلى تناقص جاذبيتها.

يُعتقد عمومًا أن أنتوني أشلي كوبر (Anthony Ashley Cooper) إيرل (الايرل هو لقب انكليزي) شافتسبري الثالث (1671-1713) كان من أوائل منظري الحس الأخلاقي معتبرًا أنّ لدينا نوعًا من العين الداخلية التي تسمح لنا بالتمييز الأخلاقي، ويبدو أنّ هذا كان شعورًا فطريًا بالصواب والخطأ أو الجمال الأخلاقي والتشوه.

ديفيد هيوم وفلسفته النفعية:

ومرة أخرى تم تحديد جوانب هذه العقيدة من قبل فرانسيس هاتشسون وديفيد هيوم (1711-1776)، وبالطبع سيرفض هيوم بوضوح أي تداعيات واقعية قوية، وإذا كان الحس الأخلاقي مثل الحواس الإدراكية الأخرى وتمكننا من التقاط خصائص موجودة في الكون من حولنا وهي خصائص موجودة مستقلة عن تصورنا لها وكما أنّها هي خصائص موضوعية، فمن الواضح أنّ هيوم لم يكن منظِّرًا للحس الأخلاقي في هذا الصدد، ولكن الإدراك يلتقط سمات بيئتنا التي يمكن للمرء أن يعتبرها ذات جودة عرضية.

وهناك مقطع واحد شهير حيث يشبه هيوم التمييز الأخلاقي بإدراك الصفات الثانوية مثل اللون في المصطلحات الحديثة وهذه خصائص تعتمد على الاستجابة وتفتقر إلى الموضوعية، بمعنى أنّها غير موجودة بشكل مستقل عن استجاباتنا، وهذا يعد جذريًا إذا كان الفعل شريرًا فإنّ شره هو مسألة استجابة الإنسان بالنظر إلى منظور مصحح للفعل أو آثاره المتصورة وبالتالي يكون له نوع من الصدفة التي تبدو مقلقة وبالتأكيد مقلقة لأولئك الذين اختاروا اللاهوت اختيار.

لذا فإنّ الرأي القائل بأنّ التمييز الأخلاقي جزء من طبيعتنا هو إلى حد كبير في هيوم، علاوة على ذلك -وما هو وثيق الصلة بتطوير النفعية- فإنّ وجهة نظر شافتسبري أنّ الشخص الفاضل يساهم في خير الكل، حيث ستظهر في كتابات هيوم على الرغم من تعديلها، وإنّها الفضيلة التي تساهم في خير النظام بأكمله في حالة فضائل هيوم الاصطناعية.

تأثر هيوم بشدة بهتشسون الذي كان أحد أساتذته، ويتضمن نظامه أيضًا الأفكار التي قدمها شافتسبري، وعلى الرغم من أنّه يفتقر بالتأكيد إلى ثقة شافتسبري في أنّ الفضيلة هي مكافأة لها من حيث مكانته في تاريخ النفعية.يجب أن نلاحظ تأثيرين مميزين لنظامه وهما:

  1. أولاً: أثر حسابه عن المنفعة الاجتماعية للفضائل المصطنعة على فكر بنثام في المنفعة.
  2. ثانيًا :أثر تفسيره للدور الذي لعبته المشاعر في الحكم الأخلاقي والالتزام بالمعايير الأخلاقية على أفكار ميل حول العقوبات الداخلية للأخلاق.

تباعد ميل عن بنثام في تطوير منهج الإيثار للنفعية وعكست نظريته عن الطبيعة البشرية أنانية هوبز النفسية.

شافتسبري وفلسفته النفعية:

رأى شافتسبري أنّه عند الحكم على شخص ما فاضل أو جيد بالمعنى الأخلاقي نحتاج إلى إدراك تأثير ذلك الشخص على الأنظمة التي هو جزء منها، وهنا يصبح من الصعب أحيانًا فصل خطوط التفكير الأنانية مقابل المنفعة في شافتسبري، ولقد صرح بوضوح أنّه مهما كانت القوة الموجهة هناك جعلت الطبيعة مثل المصلحة الخاصة وخير كل فرد والعمل من أجل الصالح العام، والذي إذا توقف الكائن عن تعزيزه فهو في الواقع يريد لنفسه حتى الآن ويتوقف عن تعزيز سعادته ورفاهيته.

من الصعب في بعض الأحيان تمييز اتجاه وذلك لأنّ – إذا كان على المرء أن يتصرف لمساعدة الآخرين لأنّه يدعم نظامًا تكون فيه سعادة المرء أكثر احتمالية فإنّه يبدو حقًا وكأنه شكل من أشكال الأنانية، وإذا كان على المرء أن يساعد الآخرين لأنّ هذا هو الشيء الصحيح الذي يجب فعله – ولحسن الحظ ينتهي الأمر أيضًا بالترويج لمصالح المرء الخاصة فهذا يشبه إلى حد كبير النفعية لأنّ تعزيز المصلحة الذاتية هو تأثير مرحب به ولكن ليس كل شيء في حد ذاته يبرر شخصية الفرد أو أفعاله.

علاوة على ذلك لكي يكون الشخص فاضلاً يجب أن يتمتع بقدرات نفسية معينة بحيث على سبيل المثال يجب أن يكون قادرًا على التفكير في شخصيته وأن يمثل لأنفسهم الصفات في الآخرين التي إما تمت الموافقة عليها أو رفضها.

“في هذه الحالة وحدها نسمي أي مخلوق جديرًا أو فاضلاً عندما يكون لديه فكرة عن المصلحة العامة، ويمكنه بلوغ التخمين أو العلم لما هو جيد أو سيء أخلاقيًا بحيث يكون مثيرًا للإعجاب أو يستحق اللوم وصحيحًا أو خطأ، فنحن لا نقل أبدًا عن أي وحش أو أحمق أو متغير على الرغم من كونه لطيفًا دائمًا لدرجة أنّه يستحق أو أنّه فاضل”.

شافتسبري

وبالتالي فإنّ الحيوانات ليست موضوعًا للتقييم الأخلاقي لوجهة النظر لأنّها تفتقر إلى القدرات الانعكاسية اللازمة، كما أنّها تفتقر الحيوانات أيضًا إلى القدرة على التمييز الأخلاقي وبالتالي يبدو أنّها تفتقر إلى الحس الأخلاقي، وهذا يثير بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام، حيث يبدو أنّ الحس الأخلاقي هو إدراك أنّ هناك شيئًا ما هو الحال، ولذلك ليس مجرد شعور تمييزي يسمح لنا بفرز التصورات، كما أنّ لها جانبًا إفتراضيًا بحيث تنقص هذه الحيوانات التي لا تنقصها معاني أخرى.

أما فيما يتعلق بالشخص الفاضل هو الشخص الذي تكون عواطفه ودوافعه وتصرفاته من النوع الصحيح، وليس الشخص الذي يكون سلوكه ببساطة من النوع الصحيح والذي يكون قادرًا على التفكير في الخير وصلاحه الخاص، وبالمثل فإنّ الشخص الشرير هو الذي يجسد الأنواع الخاطئة من الحالات العقلية والعواطف وما إلى ذلك، والشخص الذي يؤذي الآخرين دون ذنب من جانبه، وذلك لأنّ لديه نوبات متشنجة تجعله يضرب ويجرح كالاقتراب منه، كما أنّه ليس شريرًا لأنّه لا يرغب في إيذاء أي شخص وحركاته الجسدية في هذه الحالة تتجاوز مراقبة.

اقترب شافتسبري من التقييم الأخلاقي من خلال الفضائل والرذائل، وتختلف ميوله النفعية عن منهجه الحس الأخلاقي وعن عاطفته العامة، ومع ذلك ، فإنّ هذا النهج يسلط الضوء على الابتعاد عن وجهات النظر الأنانية للطبيعة البشرية، وهو اتجاه التقطه هاتشسون وهيوم واعتمده لاحقًا ميل في نقد نسخة بنثام من النفعية، وبالنسبة لكتاب مثل شافتسبري وهوتشيسون كان التناقض الرئيسي هو الأنانية وليس العقلانية.

فرانسيس هاتشسون وفلسفته النفعية:

مثل شافتسبري كان فرانسيس هاتشسون مهتمًا جدًا بتقييم الفضيلة كما تبنى نهج الحس الأخلاقي، ومع ذلك في كتاباته نرى أيضًا تأكيدًا على اختيار الفعل وأهمية المداولات الأخلاقية لاختيار الفعل، فهاتشسون في تحقيق حول الخير والشر الأخلاقيين حدد بوضوح إلى حد ما مبدأ نفعي لاختيار الفعل -كما يلاحظ يواكيم هروشكا (Joachim Hruschka) ومع ذلك أنّ لايبنيز هو أول من أوضح إجراء قرار نفعي.

“عند مقارنة الصفات الأخلاقية للأفعال يقودنا إحساسنا الأخلاقي بالفضيلة للحكم على هذا النحو، حيث أنّه بدرجات متساوية من السعادة يُتوقع أن تنطلق من الفعل، وتتناسب الفضيلة مع عدد الأشخاص الذين يجب أن تمتد لهم السعادة، وهنا قد تعوض كرامة الأشخاص أو أهميتهم الأخلاقية بالأرقام، والفضيلة بأعداد متساوية هي كمية السعادة أو الخير الطبيعي، أو أنّ الفضيلة في نسبة مركبة لكمية الخير وعدد المستفيدين، بحيث يكون هذا الفعل هو الأفضل الذي يولد أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد، وهذا الأسوأ الذي بالمثل يعد مناسبات البؤس”.


على ما يبدو كان هتشسون ملتزمًا بالتعظيم، ومع ذلك أصر على تحذير بأن “كرامة الأشخاص أو أهميتهم الأخلاقية قد تعوض الأرقام”، ولقد أضاف قيدًا أخلاقيًا آخر وهو أنّ علينا واجبًا تجاه الآخرين بحكم شخصيتهم وأن نمنحهم كرامة أساسية بغض النظر عن عدد الآخرين الذين تتأثر سعادتهم بالعمل المعني.

سكار وفلسفته النفعية:

ويشير سكار (Scarre) إلى أنّ البعض يتعارض مع نهج الحس الأخلاقي مع هذا التركيز على استخدام العقل لتحديد ما يجب علينا القيام به، وهناك تعارض بين مجرد فهم ما هو مهم من الناحية الأخلاقية والنموذج الذي نحتاج فيه إلى التفكير لمعرفة ما تتطلبه الأخلاق منا، ولكن سكار يلاحظ أنّ هذه ليست في الواقع غير متوافقة فكتب:

“الصورة التي تظهر من مناقشة هتشسون هي لتقسيم العمل حيث يدفعنا الحس الأخلاقي إلى النظر باهتمام إلى الأفعال التي تفيد الآخرين وتكره أولئك الذين يؤذونهم، وبينما يحدد التفكير التبعي ترتيبًا أكثر دقة للخيارات العملية في حالات معينة”.


ثم يستخدم سكار مثال الكذب لتوضيح بأنّ الكذب ضار بالشخص الذي يكذب عليه المرء ولذا يُنظر إلى هذا باستياء بشكل عام، ومع ذلك في حالة معينة إذا كان الكذب ضروري لتحقيق بعض الخير الملحوظ فإنّ التفكير العواقبي سيقودنا إلى تفضيل الكذب، لكن يبدو أن هذا المثال يضع كل التركيز على النظر في العواقب في الموافقة الأخلاقية والرفض.

فيلاحظ ستيفن داروال (Stephen Darwall) أنّ الحس الأخلاقي يهتم بالدوافع، فنحن نوافق على سبيل المثال على دافع الخير فكلما كان النطاق أوسع كان ذلك أفضل، وإنّ الدوافع وليس العواقب هي موضوع الموافقة والرفض، ولكن بقدر ما يهتم الشخص الصالح أخلاقيًا بما يحدث للآخرين وبالطبع سوف يفعل ذلك فإنّه سيصنف أفعال الترتيب من حيث تأثيرها على الآخرين ويستخدم العقل في حساب التأثيرات ولذلك لا يوجد تعارض على الإطلاق.


شارك المقالة: