بيدي لا بيد عمرو

اقرأ في هذا المقال


يُعرّف المثل أنه جملة أو عبارة تتسم بالقصر والإيجاز، والأمثال تتحدث غالباً عن تجارب معينة، والتي مر بها أشخاص في زمن معين، إذًا فالأمثال هي خلاصة تجربة الشعوب بمختلف طبقاتهم، فهي وُلدت نتيجة إبداع المجتمع بأكمله من خلال الخبرة، والفترة التاريخية التي اضطرت الناس إلى قول المثل، وتعدّ الأمثال الشعبية مرآة لطبيعة الناس ومعتقداتهم، حيث تنعكس عليها عاداتهم وتقاليدهم، وتعتبر الأمثال وسيلة لتعليم الدروس من الحياة بشكل حكيم وفكاهي في آن واحد، فالأمثال تحث على الفضيلة، وتنبذ الرذيلة بأسلوب يميل إلى الجد حينًا، والى السخرية حينا آخر.

أصل مثل “بيدي لا بيد عمرو” – ولم يضرب؟

يتساءل بعض الناس عن أصل عبارة “بيدي لا بيد عمرو”، والتي ذهبت مثلًا، وتداولته ألسن العامة، وكما أنهم يجهلون الحكمة المرجوة منها، لقد انتشرت هذه المقولة على ألسن العرب منذ القدم، وأصبحت مثلاً يُضرب في اتخاذ القرار، وقد انتشرت هذه المقولة “بيدي لا بيد عمرو”، كناية على أنه ينبغي على الإنسان أن يتخذ قراره بنفسه ولا يتردد، حتى لا يأتي القرار من غيره جبراً وقسراً، سواءً كان من صديق أو عدو.

قصة مثل “بيدي لا بيد عمرو”:


لقد أشارت مصادر التاريخ التراثية العربية، أن العراق كان مقسومًا إلى مملكتين في الفترة الزمنية من أواخر القرن الثالث الميلادي، وهما: مملكة الحيرة ومملكة تدمر، ويُحكى أن ملك الحيرة “جذيمة الأبرش”، قد قتل ملك تدمر “عمرًا بن الأظرب”، وكان ذلك في إحدى الحروب المتوالية بينهما لأسباب ثأرية تارة، واستحواذية لمناطق تارة أخرى، إذ أن ذلك كان منتشرًا في ذلك الزمن، فتولت ابنته “الزباء بنت عمرو بن الأظرب” الحكم بعد والدها، وقد عُرفت “الزباء” بقوتها ودهائها وجسارتها ودرايتها بفنون الحرب والقتال، وكما أنها كانت تجيد استخدام كل الأسلحة.
بعد أن استقر حكم الزباء، وهدأت أمور الدولة عندها، قامت الزباء بإرسال كتاب إلى جذيمة تعرض فيه الزواج منها، وذلك كي تتحد مملكتا الحيرة وتدمر، وتتوقف المعارك بينهما، ويمدها بيد العون في إدارة شؤون مملكتها، سُعد جذيمة بذلك العرض المغري، وقام بعرضه على مستشاريه في القصر، فأجمعوا على الموافقة على طلبها، كي يبسط حكمه على المملكتين، ماعدا ‏مستشاره “قصير بن سعد”، والذي أحس بوجود مؤامرة في العرض، فأشار على الملك أن يطلب إلى الزباء أن تأتي هي إلى الحيرة لعقد الزواج منها، غير أنه ‏لم يستمع لكلامه، ثم إنه نوى السفر إليها، وأوكل ابن اخته “عمرو بن عدي” مهام الحكم حتى يعود، وانطلق نحو ‏مملكة تدمر فرحاً بهذا العرض السخي: زواج ومملكة أخرى.
لما وصل الملك جذيمة إلى تدمر، دخل إلى غرفة الملكة الزباء، فألفاها ترتدي كامل ملابسها الحربية، وسارعته بالقول: قد جئت طالباً موتك لا عرسك، وقامت بقتله على ‏الفور كي تنتقم لوالدها، وصل خبر موت جذيمة إلى قصير “مستشار جذيمة”، فأخبر ابن اخته عمراً الذي ولاه الحكم بعده، وحثه على الثأر لخاله من تلك المرأة ‏المخادعة، واقترح عليه حيلة، وذلك بأن يجلدوه حتى تتمزق ملابسه، ثم يذهب مسرعاً الى الملكة الزباء ‏يشكو إليها ما فعله به عمرو بن عدي، لأنه أشار لجذيمة بزواجها منها، وقد لجأ اليها لتحميه من بطش ‏عمرو.
صدقت الزباء قصير وانطلت عليها الخدعة، فقامت باستضافته، وأسكنت​ه معها في القصر، وأما قصير فقد قام بدراسة قصر الملكة بالكامل، من داخله وخارجه، وحتى أنه عرف المخرج السري الخاص بالملكة، والذي تستخدمه للهرب من القصر في حال ‏حدث أي هجوم، وبعد فترة ادعى قصير أن لديه تجارة كبيرة من الأقمشة الحريرية في الحيرة، وعليه الذهاب بسرية؛ ليأتي بها إلى ‏تدمر، فسمحت له بالذهاب، هنا حذرها المنجم الخاص بها من عمرو بن عدي؛ لأن هلاكها سيكون على يديه، ‏فأرسلت أمهر الرسامين من مملكتها، وقد تخفوا وسط خدم عمرو لرسم صورته؛ حتى يتعرفوا على شكله جيدًا، وتحذر منه، وبالفعل نجحوا في ذلك.
رجع قصير بعد مدة قصيرة إلى الملكة الزباء، وهو يحمل الهدايا القيمة الثمينة من ‏مجوهرات وثياب وعطور، والتي أثارت إعجابها، وفيما بعد طلب إليها أن تسمح له بالرحيل مرة أخرى، فسمحت له، وهذه ‏المرة عاد بهدايا أكثر من المرة الأولى، وفي المرة الثالثة عاد ومعه الكثير من الجمال المحملة ببضائع ‏تكاد تسقط من ثقلها، وعند دخول القافلة ساحة القصر، فتح قصير أجولة الجمال الثقيلة، وكانت المفاجأة أنه كان في كل جوال ‏رجل من جيش عمرو، وهجموا على الحراس.
لما علمت الزباء بهجوم جيش عمرو بن عدي، أسرعت إلى الهروب من المخرج السري الخاص بها، وفوجئت عند وصولها بعمرو ينتظرها ليقتلها هناك، فقالت: “بيدي لا بيد عمرو”، ثم بلعت سمّاً كان في خاتمها، فماتت، وهناك رواية تقول إن ‏عمراً لحق بها وقتلها بسيفه، ليحقق انتقامه لخاله،‏ وهذه الرواية مذكورة بعدة أشكال، والنتيجة واحدة، ومنذ ذلك الوقت انتشرت هذه المقولة “بيدي لا بيد عمرو”، إشارة إلى أنه ينبغي على الإنسان أن يتخذ قراراته بنفسه وألا يتردد، حتى لا يأتي القرار من غيره جبراً وقسراً، سواءً كان من صديق أو عدو.


شارك المقالة: