بيكون كمعلق أرسطي

في الجزء الأول من حياته المهنية حاضر الفيلسوف روجر بيكون في كلية الفنون في الأطروحات الأرسطية والأرسطية الزائفة، ولم يظهر أي مؤشر على انشغاله اللاحق بالعلم، ومحاضراته في باريس مهمة في تمكين العلماء من تكوين فكرة ما عن العمل الذي قام به شخص كان رائدًا في تقديم أرسطو إلى أوروبا الغربية، وتكشف عن أرسطو التميّز بقوة العناصر الأفلاطونية الحديثة المنبثقة من العديد من المصادر المختلفة، ومع ذلك فقد تم تضخيم تأثير ابن سينا على بيكون.

فيزياء أرسطو بين روجر بيكون وريتشارد روفوس:

كان ريتشارد روفوس وروجر بيكون من أوائل معلمي فلسفة أرسطو الطبيعية والميتافيزيقيا في باريس، وأتاح النشر الأخير لريتشارد روفوس من كتاب كورنوال فيزياء أرسطو (In Physicam Aristotelis)، والذي هو بالتأكيد نص مهم جدًا لفهم تأثير فيزياء أرسطو على التقليد المبكر للفلسفة الطبيعية الإنجليزية في القرن الثالث عشر، وقد قام ريتشارد روس بتأريخ نص أسئلة الفيزياء في الجزء الأول من منتصف القرن.

رسم كل من سيلفيا دوناتي (Silvia Donati) وسيسيليا تريفوغلي (Cecilia Trifogli) التقليد المعقد للتعليقات المسماة والمجهولة على فيزياء أرسطو في إنجلترا في القرن الثالث عشر، وقد تنسب الفيلسوفة ريجا وود (Rega Wood) النص إلى ريتشارد روفوس من كورنوال الذي توفي عام 1260، وتدّعي أنّ ريتشارد روفوس كان أول معلم غربي لأرسطو الجديد الذي نعرفه، فقد درس الفيزياء والميتافيزيقا الأرسطية بدرجة ماجستير في الآداب في جامعة باريس قبل عام 1238.

في وقت تجهيز واعداد الطبعة لاحظت وود أنّ بيكون قد تناول هذه التعليقات على فيزياء أرسطو لاحقًا في أسئلة حول فيزياء أرسطو، ونتيجة لذلك ترى روجر بيكون خليفة لريتشارد روفوس كمدرس باريسي لفلسفة أرسطو الطبيعية.

كدليل على تأثير روفوس على روجر بيكون تُقدم وود مناقشة لثلاثة مواضيع وهي:

1- حركة المقذوفات.

2- مكان السماء.

3- بداية العالم.

فلسفة بيكون وجروسيتيست في المعرفة والعلم والحدس:

يرى بيكون أنّ المعرفة العلمية ذات شقين:

1- هناك المعرفة المنقوصة والمربكة: والتي يميل بها العقل إلى حب الخير والحقيقة، وهذه المعرفة الضمنية وفطرية.

2- هناك معرفة منطقية صريحة: وهي جزء واحد من هذا يتعلق بمعرفة مبادئ العلم، والآخر هو معرفة الاستنتاجات، حيث هذا الأخير هو معرفة كاملة على الرغم من أنّها ليست شاملة.

يُعتبر وصف بيكون للحس والذاكرة والخبرة أكثر شمولاً من تلك الموجودة في تعليق الفيلسوف روبرت جروسيتيست (Robert Grosseteste)، ويعكس قراءته الخاصة لابن سينا​، التقليد الطبي كما يعمل على البصريات.

يميّز بيكون الخبرة (experientia) عن التجربة (experimentum)، فالخبرة هي المعرفة المميزة للأشياء الفردية، وجميع الحيوانات لديها هذه المعرفة المميزة للمفردات، ولكن ليس كل الحيوانات لديها تجربة، أي علم مبادئ قائم على الخبرة، وعلى حد تعبيره فإنّ: “التجربة هي الاستقبال المتميز للمفردات في ظل بعض جوانب الشمولية، كما هو مذكور في نص أرسطو، ولكن العقل وحده هو الذي يدركه”، ولذلك فإنّ البشر فقط وليس الحيوانات الأخرى لديهم التجربة.

تمتلك العديد من الحيوانات صورة تخيلية لأشياء فردية وتعيش بفن وصناعة فطريين، وتعرف بشكل طبيعي كيفية التكيف مع الظروف الجوية المتغيرة، ومع ذلك يتم اكتساب الفن البشري وهو علم مبادئ قائم على تجربة مبدئية، ويمكن للمرء أن يعبر عن موقف بيكون على النحو التالي: التجربة هي المصدر العالمي لاكتشافنا للمبادئ العلمية، والمعرفة العلمية بمجرد إنشائها تستمر عن طريق العرض، وتعيّن الخبرة التصور البسيط للمفردات، وفقط بمعنى فضفاض للغاية يمكن استخدامه للمعرفة العلمية.

ومع ذلك في بعض الأحيان يتم استخدام هذين المصطلحين حول التجربة بالتبادل، وفي هذا الحساب لم يتوصل بيكون بعد إلى مفهومه المتأخر عن العلم التجريبي، والتحقق التجريبي (الشهادة) من استنتاجات المعرفة البرهانية، وإنّه يتعامل فقط مع الخبرة كمصدر لمبادئ معرفتنا بالفن والعلم.

بعبارة أخرى في هذه المرحلة يهتم بيكون بشكل أساسي بتعريف أرسطو للخبرة في الميتافيزيقيا والتحليلات اللاحقة، على الرغم من أنّ المرء يلاحظ بالفعل أنّه يربط موضوع أرسطو بالمناقشة في منظور ابن الهيثم، ومع ذلك من المهم أيضًا ملاحظة أنّ هذه الاهتمامات الأرسطية بشأن التجربة قد تكررت في عام 1267 في بداية (Opus majus) في الجزء السادس حول العلوم التجريبية، وبالتالي الميتافيزيقيا والتحليلات اللاحقة والأرصاد الجوية لأرسطو جنبًا إلى جنب مع بصريات ابن الهيثم سيشكل الخلفية الفلسفية اللازمة لمفاهيم بيكون اللاحقة لعام 1266 عن العلوم التجريبية.

تعليق بيكون على المادة:

في وقت لاحق ما بعد عام 1260 في عمله الفلسفي الطبيعة المشتركة (Communia naturalium)، يعطي بيكون ستة معانٍ لمفهوم المادة وهي:

1- المادة هي موضوع العمل كما هو الحال عندما نقول أنّ الخشب هو موضوع عمل النجار.

2- بالمعنى الصحيح للمصطلح المادة هي التي تشكل بالشكل والمركب كما في حالة كل مادة مخلوقة.

3- المادة هي موضوع التوليد والفساد، وتتميز بكونها شيئًا غير مكتمل وغير كامل في القدرة على أن تكون شيئًا كاملًا.

4- المادة هي موضوع التغيير لأنّها تتلقى حوادث متعارضة.

5- يمكن اعتبار المادة كفرد فيما يتعلق بالعام، حيث يتم تأسيس هذا الأخير في الفرد كما هو الحال في مبدأ مادي.

6- المادة هي اسم ما هو إجمالي، كما هو الحال عندما نقول أنّ الأرض بها مادة أكثر من النار.

الشكل له أولوية معينة ليكون مهمًا باعتباره نهاية التوليد وككمال للمبدأ المادي، كما إنّه مبدأ العمل والمعرفة، وبشكل عام بالنسبة لبيكون المادة ليست مجرد قوة، وإنّه شيء غير مكتمل (الجوهر) وبالتالي فإنّ المادة والشكل بالنسبة له مادتان غير مكتملتين وتتكاملان لتكوين مادة فردية واحدة، ففي هذا يكون لدى المرء فكرة عن المادة على أنّها شيء إيجابي بمعنى ما وإنّها ليست باطلة.

تتمثل إحدى طرق وضع موقف بيكون في المادة في تحديد موقعها بين الأحادية المادية لديفيد دينانت (David of Dinant) وموقع الأكويني في هذه المسألة هو احتمال محض، فبالنسبة إلى بيكون فإنّ المادة باعتبارها كائنًا جوهريًا (esse essentiae) لها وجود في حد ذاتها، بينما بالنسبة للأكويني الشكل وحده يعطي الوجود.

ولكن بالنسبة لبيكون فإنّ وجود الجوهر والوجود ينتميان معًا، لذلك يمكن أن تكون المادة مبدأ قسمة، على عكس الموقف الأحادي الذي يشدد بيكون على تعدد الأمور، والعلاقة بين الكوني والخاص فيما يتعلق بالمادة والشكل في بيكون معقدة حيث يلاحظ المرء تأثير ابن سينا.

في كل من الأعمال المبكرة واللاحقة يعترض بيكون على فكرة أنّ المادة واحدة في كل شيء، ونشأت خلفية هذه القضية في الأربعينيات إلى السبعينيات من القرن الماضي من السيرة الذاتية لأفيسبرون، ومن المناقشات الفرنسيسكانية في باريس حول طبيعة وحدة المادة، كما يرى بيكون أنّ المادة ليست واحدة عدديًا، ولكنها في حد ذاتها ومن نفسها متميزة عدديًا في كائنات مختلفة عدديًا.

ومع ذلك فهو لا يعترض على الوحدة المنطقية للمادة، على سبيل المثال المادة كاحتمالية هي المصدر الأصلي لوجود الأشياء الطارئة، وهذا هو عدم وجود المخلوق على عكس كيان الخالق، والمادة بشكل صحيح هي المادة الأولية، ويجب تمييز هذا عن كل من المادة الطبيعية والمادة الاصطناعية، وهكذا سيتحدث بيكون عن مسألة الكائنات الجسدية والروحية ومن ثم عن المادة الروحية، وهو مفهوم وجده الأكويني متناقضًا.

تم فحص أهمية عقيدة الهايلومورفزم (hylomorphism) -وهو المذهب الذي يؤمن بأنّ الأشياء المادية تتكون من امتزاج المادة والشكل- في المدرسة الفرنسيسكانية في باريس من قبل آنا رودولفي (Anna Rodolfi) لعام 2010 و2014، وقد تم تحديد تعقيد المادة الطبيعية فيما يتعلق بالتوليد وكذلك إلى العملية الكيميائية بعناية من قبل ميشيل بيريرا (Michele Pereira) عام 2014، كما تمت الإشارة إلى عقيدة بيكون للمادة كمصدر لنظرية المادة في بيتر جون أوليفي (Peter John Olivi)، وذلك من قبل محرري بيتر جون أوليفي عن المادة لعام 2008.

في أعماله اللاحقة وبالتحديد في أعماله عن الفلسفة الطبيعية يقدم بيكون الطبيعة كعامل نشط، حيث أنّ الشكل أو النوع هو التأثير الأول لأي عامل طبيعي، وإنّ قوة الأنواع تثقف ظهور الشيء من فاعلية المادة، وإنّه لا ينتج ببساطة شكلاً أو نوعًا ويفرضه على الأمر، فالمادة لها فاعلية نشطة ويتحقق ذلك بسبب تأثير العامل الخارجي الطبيعي.