تاريخ فلسفة الاستقلالية

اقرأ في هذا المقال


لعب مفهوم الاستقلالية دورًا في الفكر الأخلاقي والسياسي طوال العصر الحديث، ولربما كان إيمانويل كانط هو أهم مفكر تاريخي قط ساهم في بروزها، فتاريخ الفلسفة من القديمة فصاعدًا مليئة بالمناقشات ذات الصلة بفهم الاستقلالية وأدوارها.

الاستقلالية ما قبل كانط:

يمكن العثور على جذور الاستقلالية مثل تقرير المصير في الفلسفة اليونانية القديمة، وفي فكرة السيادة الذاتية، وبالنسبة لكل من أفلاطون وأرسطو فإنّ الجزء الأكثر جوهرية من الإنسان في الروح هو الجزء العقلاني، كما يتضح من تصوير أفلاطون لهذا الجزء على أنّه إنسان وليس أسدًا أو وحشًا متعدد الرؤوس في وصفه للروح الثلاثية في الجمهورية.

الروح العادلة بالنسبة لأفلاطون هي الروح التي يتحكم فيها هذا الجزء الإنساني العقلاني على الاثنين الآخرين، ويعرّف أرسطو الجزء العقلاني من الروح على أنّه الجزء الأكثر حقًا من الإنسان في الأخلاق النيقوماخية.

يربط أفلاطون وأرسطو أيضًا المثل الأعلى للإنسانية بالاكتفاء الذاتي وعدم الاعتماد على الآخرين، وبالنسبة لأرسطو الاكتفاء الذاتي بانّه عنصر أساسي للسعادة، وينطوي على عدم الاعتماد على الظروف الخارجية للسعادة، وأفضل إنسان هو الذي يحكمه العقل ولا يعتمد على الآخرين في سعادته أو سعادتها.

يستمر هذا النموذج المثالي من خلال الفلسفة الرواقية ويمكن رؤيته في فلسفة سبينوزا الحديثة المبكرة، حيث استمر مفهوم الاستقلال نفسه في التطور في العصر الحديث مع انخفاض السلطة الدينية وزيادة الحرية السياسية والتأكيد على العقل الفردي، وترتبط فكرة الفيلسوف جان جاك روسو عن الحرية الأخلاقية كسيطرة على الذات بالحرية المدنية والقدرة على المشاركة في التشريع.

الاستقلالية في وقت كانط:

طور كانط فكرة الاستقلالية الأخلاقية على أنّها تتمتع بالسلطة على أفعال الفرد، وبدلاً من السماح للمبادئ التي نتخذ القرارات بموجبها بتحديدها من قبل قادتنا السياسيين أو القساوسة أو المجتمع، ودعى كانط إلى تحديد مبادئها التوجيهية لنفسها وبالتالي ربط فكرة الحكم الذاتي بالأخلاق، وبدلاً من الانصياع لقانون أو وصية دينية مفروضة من الخارج فيجب على المرء أن يخضع لقانون فرضه على نفسه.

في مقالته بعنوان (ما هو التنوير) وصف التنوير بأنّه: “خروج الإنسان من أقلية متكبدة بذاته”، ودعا قرّائه إلى التحلي بالشجاعة لاستخدام فهمهم الخاص دون توجيه من الآخر، وهذا الوصف قريب مما قد نعترف به اليوم على أنّه استقلالية شخصية، ولكن حساب كانط يقع بقوة في فلسفته الأخلاقية.

في التمثيل نحن نسترشد بالقواعد وهي المبادئ الذاتية التي قد نختار الالتزام بها شخصيًا، وإذا كان من الممكن اعتبار هذه المبادئ كونية بحيث يتم الموافقة عليها وإرادتها من قبل أي كائن عقلاني، وبالتالي لا تتجذر في تجربة عرضية معينة لأي فرد فقد تكتسب مكانة القوانين الموضوعية للأخلاق.

إذن يجب أن يُنظر إلى كل فاعل أخلاقي على أنّه مشرّع للقانون في مجتمع يكون فيه الآخرون أيضًا مشرعين في حد ذاتها، وبالتالي يجب احترامهم كغايات في حد ذاتها، ويسمّي كانط هذا المجتمع مملكة النهايات.

بينما يفترض أن تكون الإرادة مستقلة بالنسبة لكانط لا يُفترض أيضًا أن تكون تعسفية أو خاصة في تحديداتها، ويرى ميولنا واستجاباتنا العاطفية على أنّها خارجية لعملية التشريع الذاتي للإرادة، وبالتالي فإنّ السماح لهم بتحديد أفعالنا هو أمر غير متجانس وليس مستقلاً، ويتم استبعاد المشاعر والعواطف والعادات والعوامل غير الفكرية الأخرى من صنع القرار المستقل، أي ظروف خاصة بنا مستبعدة أيضًا من اتخاذ القرار المستقلي.

إن سبب استبعاد كانط للمشاعر والميول والجوانب الخاصة الأخرى من حياتنا من بنية الاستقلالية متجذرة في وصفه الميتافيزيقي للإنسان، والذي يفصل جذريًا الذات البشرية الظاهراتية عن الذات البشرية نومنال (noumenal)، وجميع الجوانب التجريبية لذواتنا هي جزء من الذات الظاهراتية وخاضعة للقوانين الحتمية للسببية الطبيعية، ومن ناحية أخرى لا يمكن إدراك حريتنا أو فهمها، بل يجب أن نضع حرية الإرادة كأساس لقدرتنا على التصرف بشكل أخلاقي.

لا يلتزم الكانطيون المعاصرون ضمن النظرية الأخلاقية بميتافيزيقيا كانط، لكنهم يسعون لفهم كيف أنّ مفهوم كانط عن الاستقلالية يمكن أن يظل قائما حتى اليوم، ويقترح توماس هيل مثلًا أنّ فصل إرادتنا الحرة عن ذواتنا التجريبية لا يُنظر إليه على أنّه فكرة ميتافيزيقية ولكن كادعاء معياري حول ما يجب اعتباره أسبابًا للتصرف.

هناك اختلافات كبيرة بين مفهوم كانط للاستقلالية الأخلاقية ومفاهيم الاستقلالية الشخصية التي تم تطويرها خلال الثلاثين عامًا الماضية، والتي تحاول توضيح كيف يمكن أن تكون التأثيرات الاجتماعية والثقافية متوافقة مع صنع القرار المستقل.

علاوة على ذلك فإنّ غالبية النظريات المعاصرة للاستقلالية الشخصية هي حسابات ذات محتوى محايد للاستقلالية، ولا تهتم بما إذا كان الشخص يتصرف وفقًا للقوانين الأخلاقية أم لا، وإنّهم يركزون أكثر على تحديد ما إذا كان الشخص يتصرف لأسباب خاصة به أم لا، من التركيز على وضع أي قيود على الفعل المستقل.

فلسفة تطور الفردية في الاستقلالية:

بين وصف كانط للاستقلالية الأخلاقية والمنحة الدراسية الحديثة حول الاستقلال الذاتي، كانت هناك عملية لإضفاء الطابع الفردي على فكرة الاستقلالية، حيث كان الرومانسيون في رد فعلهم ضد التأكيد على عالمية العقل التي طرحها التنوير والتي كانت فلسفة كانط جزءًا منها خصوصية وفردية ثمينة، وسلطوا الضوء على دور العواطف والانفعالات على العقل وأهمية تطوير الذات الفريدة للفرد.

أشاد جون ستيوارت ميل أيضًا ودافع عن تطور الفردانية وزراعتها باعتباره أمرًا جديرًا بالاهتمام في حد ذاته، حيث كتب أنّ: “الشخص الذي تكون رغباته ودوافعه تخصه هي تعبير عن طبيعته الخاصة، حيث تم تطويرها وتعديلها بواسطة ثقافته الخاصة، ويقال أنّ له شخصية، والشخص الذي ليست رغباته ودوافعه خاصة به ليس أكثر من محرك بخاري له طابعة”.

تم بعد ذلك صدى المفهوم الرومانسي للفردانية ضمن مفهوم الأصالة الذي يمر عبر الفلسفة الفينومينولوجية والوجودية، ويفترض هايدجر نداءً داخليًا للضمير يستدعينا بعيدًا عن فلسفته في (das Man): “لكي نكون أصليين نحتاج إلى الاستجابة لهذه الدعوة الداخلية والابتعاد عن اتباع الحشد بشكل غير أصيل”، وأصبح مفهوم الأصالة هذا متشابكًا مع فكرة الاستقلالية فكلاهما ينطوي على دعوة للتفكير بنفسه ويحتوي على سلسلة من الفردية.

على عكس الشمولية التي يتبناها الحكم الذاتي الكانطي، فإنّ الأصالة مثل النظرة الرومانسية تتضمن دعوة ليكون المرء شخصًا وليس مجرد التفكير لنفسه، وبالنسبة إلى كانط فإنّ التفكير في الذات إذا تم القيام به بشكل صحيح سيؤدي إلى تعميم مبادئ الفرد، ولا يوجد مثل هذا التوقع بالنسبة لكل من الرومانسيين والوجوديين وكذلك بالنسبة لميل، ولا يزال هذا التقسيم حاضرًا في التناقض بين تصور الاستقلالية كميزة أساسية للدافع الأخلاقي، والاستقلالية كتعبير عن الذات وتطوير الهوية العملية الفردية.

انتقد إيمانويل ليفيناس التركيز على الاستقلالية ضمن هذه السلالة من الفلسفة، الذي يرى الاستقلالية كجزء من رغبتنا الأنانية والمنغلقة الأفق في السعي نحو إشباعنا وإرضاء أنفسنا بدلاً من الانفتاح على النداء المضطرب لاحتياجات الآخرين. ويجادل عن قيمة الاستقلالية على الحكم الذاتي، وبالنسبة لفيناس في عدم التجانس فإنّ الوجه المتعالي للآخر يدعو الأنا إلى التساؤل، وتدرك الذات مسؤوليتها والتزامها غير المختارين تجاه الآخر.

وبالتالي فإنّ الذات ليست ذاتية التشريع ولكنها تحددها دعوة الآخر، وتم تناول هذا النقد للبنية الأساسية للحكم الذاتي ضمن الأخلاق القارية، والتي تحاول تحديد كيف أو ما إذا كان يمكن تطوير أخلاقيات عملية ومعيارية في هذا الإطار.

الاستقلالية والتطور النفسي:

تم تبني العلاقة بين الاستقلالية والمثالية لتطوير الذات الفردية داخل علم النفس الإنساني لأبراهام ماسلو (Abraham Maslow) وكارل روجرز (Carl Rogers)، اللذين رأيا هدف التنمية البشرية على أنّه (تحقيق الذات) و(التحول إلى شخص) على التوالي، وبالنسبة لماسلو وروجرز فإنّ الشخص الأكثر تطورًا هو الأكثر استقلالية، والاستقلالية مرتبطة صراحةً بعدم الاعتماد على الآخرين.

في الآونة الأخيرة طور لورنس كولبرج حسابًا للتطور النفسي الأخلاقي، حيث يُظهر الوكلاء الأكثر تطورًا قدرًا أكبر من الاستقلالية الأخلاقية والاستقلالية في أحكامهم، ويحمل المستوى الأعلى تشابهًا كبيرًا مع المثالية الأخلاقية الكانطية في إشارة إلى تبني القيم والمعايير العالمية باعتبارها قيمًا ومعايير فردية.

تعرضت أعمال كولبرج لانتقادات من قبل كارول جيليجان (Lawrence Kohlberg) التي جادلت بأنّ هذا النمط يعكس نمو الذكور ولكن ليس الإناث، وبدلاً من اتخاذ خطوات نحو الاستقلالية وحكم الذات أو الحرية، حيث يصبح الانفصال نفسه نموذجًا ومقياسًا للنمو، وبالنسبة للمرأة ترتبط الهوية بالعلاقة الحميمة بقدر ارتباطها بالفصل، وبالتالي فإنّ المسار لا يتعلق بالفردانية والاستقلالية بقدر ما يتعلق في نهاية المطاف بالموازنة والتنسيق بين مصالح الوكيل ومصالح الآخرين.

لا تتنصل جيليجان (Gilligan) تمامًا من الاستقلالية نفسها كقيمة، لكنها أيضًا لا تقترح كيف يمكن تمييزها عن مُثُل الاستقلال والانفصال عن الآخرين، وكانت انتقاداتها مؤثرة على نطاق واسع ولعبت دورًا رئيسيًا في إثارة العمل حول الأخلاق النسوية، على الرغم من انتقاداتها لمثل الاستقلالية ومفاهيم الاستقلالية العلائقية.

تميل الأدبيات المعاصرة حول الاستقلالية الشخصية في الفلسفة إلى تجنب هذه الأفكار النفسية للتطور الفردي وتحقيق الذات، وبالنسبة للجزء الأكبر يتبنى نهجًا محايدًا للمحتوى يرفض أي معايير تنموية معينة للعمل المستقل، ويهتم أكثر بتوضيح الهيكل الذي يمكن من خلاله اعتبار إجراءات معينة مستقلة، أو على العكس من ذلك الهيكل الذي يمكن من خلاله اعتبار الوكيل مستقلاً فيما يتعلق بأفعال معينة.


شارك المقالة: