جزاء سنمار

اقرأ في هذا المقال


قام النحوي اللغوي “أبو إبراهيم الفارابي” بتعريف المثل في كتابه المشهور “ديوان الأدب” حيث قال: “إن المثل ما ترضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه، حتى ابتذلوه فيما بينهم وفاهوا به في السراء والضراء، واستدروا به الممتنع من الدر، ووصلوا به إلى المطالب القصية، وتفرجوا به عن الكرب والمكربة، وهو من أبلغ الحكمة؛ لأن الناس لا يجتمعون على ناقص أو مقصر في الجودة أو غير مبالغ في بلوغ المدى في النفاسة”.

أما الفقيه البصري “إبراهيم بن سيار النظام”، فقد قال عن المثل: “في المثل يجتمع أربعة، ولا يمكن أن تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز في اللفظ، إصابة للمعنى، حسن في التشبيه، جودة الكناية، فهو غاية في البلاغة”، أما الأديب المعروف وصاحب كتاب “كليلة ودمنة”، عبد الله ابن المقفع، فقد أسبغ المديح على الأمثال قائلًا: “إذا جُعل الكلام مثلًا، كان أوضح للمنطق وآنق للسمع وأوسع لشعوب الحديث”.

لم يضرب مثل “جزاء سنمار”؟

إن مثل جزاء سنمار يُضرب في المواقف التي يُقابل فيها المرء الذي يصنع المعروف والإحسان بالإساءة والنكران، وفي هذا المقال سنتعرف إلى قصة هذا المثل من مصادر متعددة؛ للتعرف على مختلف الروايات التي تخصه.

قصة مثل “جزاء سنمار”:

قيل إن سنمّار هو مهندس روميّ، وقد نُسب إلى هذا المهندس المبدع بناء قصر الخورنق المشهور في مدينة الكوفة، وبه يُضرب مثل “جزاء سنمّار”، ذلك أنه حين انتهى من بنائه لقصر الملك النعمان بن المنذر، وقد أمضى في بناء ذلك القصر عشرين عاماً، وقد وقف مع الملك على سطح القصر بعد أن أتمّ بناءه، وقال له: إن هناك آجرّة لو زالت لسقط القصر كله، وإنه لا يعلم مكانها أحد غيره، وإنه يستطيع بناء قصر أفضل بكثير من الخورنق، فما كان من صاحب القصر إلا أن ألقاه من أعلى القصر، كي لا يخبر أحداً عن تلك الآجرة، وكي لا يبني بناء أفضل، ولعل ذلك هو السبب في ضرب المثل، إذ قوبل عمله بالجحود والنكران، وجُوزي بالموت.

ذكرت مصادر أخرى كذلك أن سنمّار قال: “إني لو أردت لجعلت هذا القصر يدور مع الشمس حيث دارت، حينها قال الملك بغضب: إنك لتجيد أن تنشئ ما هو أجمل من قصري هذا؟ فقام برميه من أعلاه، فضُرب به المثل لمن يُجازى إحسانه بالإساءة”، وفي رواية أخرى لأبي الفرج الأصفهاني في كتابه الشهير “الأغاني”، وتحديداً في جزئه الثاني، قال: ” وأما صاحب الخورنق فهو النعمان بن الشقيقة، وهو الذي ساح على وجهه فلم يعرف له خبر؛ والشقيقة أمه بنت أبي ربيعة بن ذهل بن شبيان، وهو النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عَدِيّ بن نصر بن ربيعة اللخمي.

أشار ابن الكلبي أن سبب بناء الخورنق، أن “يزجرد بن سابور” كان لا يحيا له ولد، فقام بالسؤال عن سكن مريء صحيح من الأدواء والأسقام، فدُلّ على ظهر الحيرة، فدفع ابنه “بهرام جور بن يزدجرد”، إلى النعمان بن الشقيقة، وكان هو عامله على أرض العرب، فطلب إليه أن يبني الخورنق مسكنًا له ولابنه، وينزله إياه معه بإخراجه إلى بوادي العرب؛ وأما الذي بنى الخورنق فهو رجل يُقال له سنمّار، فلما فرغ من بنائه عجبوا من حسنه وإتقان عمله، فقال: لو علمت أنكم توفوني أجرتي وتصنعون بي ما أستحقه لبنيته بناء يدور مع الشمس حيثما دارت، فقالوا: وإنك لتبني ما هو أفضل منه ولم تبنه، ثم أمر به فطرح من رأس الجوسق، وفي بعض الروايات أنه قال: إني لأعرف في هذا القصر موضع عيب إذا هدم تداعى القصر”.
ثمة رواية أخرى أوردها الميداني في كتابه “مجمع الأمثال”، وهي لا علاقة لها بالنعمان، حيث قيل: إن سنمّار كان غلاماً لرجل يُدعى “أحيحة بن الجلاح”، وأنه بنى له أطماً، فلما أكمله، قال: إني لأعرف حجراً لو انتزع لتقوض من آخره، فطلب منه سيده أن يريه إياه، فلما أراه إياه، سأله: هل يعرفه أحد غيرك، قال: لا، فرمى به من أعلى الأطم.

“جزاء سنمار” في الشعر:

لقد قام الشعراء بتناول قصة مثل سنمار هذه، وضربه مثلًا للشخص الذي يُجحد فضله، ويُنكر جميله، فقال أبو الطمحان القَيني: “جزاءَ سنمارٍ جزَوها، وربَّها وباللّات والعُزّى، جزاءَ المكَفِّرِ”.

وقال سليط بن سعد عن أبي الغيلان عن أولاده لما جحدوه فضله وجميل فعله، وقد أخذ منه الكبر:
“جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يُجزى سنمار”.

ووردت حكاية سنمّار في أبيات شعرية، في كتاب “المستقصى في أمثال العرب”؛ للزمخشري، الجزء الثاني إذ كان هناك من شكا بسبب جزاء جوزي به، وذكر لنا قصة المثل:

“جَزَانِي جَزَاهُ اللهُ شَرَّ جَزَائِهِ جَزَاءَ سِنِمَّارٍ وَمَا كَانَ ذَا ذَنْبِ
سوى رصّه البُنْيَانَ عِشْرِينَ حِجَّةً يَعُلُّ عليها بِالْقَرَامِيدِ والسَّكْبِ
فَلَمَّا انْتَهَى الْبُنْيَانُ يَوْمَ تَمَامِهِ وَصَارَ كَمِثْلِ الطَّوْدِ وَالْبَاذِخِ الصَّعْبِ
وظن سنمارٌ متى تمّ أنه يفوز لديه بالمودة والقرب
فقال اقذفوا بالعِلجِ من فوق شاهق فهذا لعمرُ الله من أعجبِ الخَطبِ”.

تُروى هذه الأبيات أعلاه، مع اختلاف قليل فيها، على أنها لعبد العزّى بن امرئ القيس الكلبي، وقد وردت في كتاب “خزانة الأدب” في جزئه الأول: “قال عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي، وكان أهدى إلى الحارث بن مارية الغساني أفراساً ووفد إليه فأعجب به واختصه، وكان للملك ابن مسترضَع في بني عبد وُدّ، من كلب فنهشته حية، فظن الملك أنهم اغتالوه؛ فقال لعبد العزى: جئني بهؤلاء القوم، فقال: هم قوم أحرار ليس لي عليهم فضل في نسب ولا فعل؟ فقال: لتأتينّي بهم أو لأفعلنَّ وأفعلن، فقال له: رجونا من جنابك أمراً حال دونه عقابك، ودعا ابنيه شراحيل وعبد الحارث فكتب معهما إلى قومه:

“جزاني جزاه الله شر جزائه جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان عشرين حجة يعلّى عليه بالقراميد والسكب”.

أمثال دارجة تشبه مثل “جزاء سنمار”:

يعرف الكثير من الناس أمثالًا دارجة تشبه في معناها مضمون مثل “جزاء سنمار”، ومن هذه الأمثال الشائعة والمعروفة لدى العامة والخاصة: خيرًًا تعمل شرًا تلقى “نلفظها بتنوين الكسر في اللهجة العامية- خيرٍ، شرٍ”، ولا ننسى بيت الشعر الذي راح مثلًا: ومن يصنع المعروف في غير أهله يلاقِ الذي لاقى مجير أم عامر، يشيع بين بعض المجتمعات العربية مثلًا بنفس المعنى وهو يحمل بعض الطرافة، وهو: أجار المعروف لط كفوف، وكذلك المثل الذي يقول: كل شي إن زرعته تقلعه إلا ابن آدم إن زرعته يقلعك.


شارك المقالة: