يوجد العديد من الأمثال التي تحمل بين طياتها معاني بديعة رائعة، والأمثال لا تُضرب من فراغ، وما كانت هباءً منثورًا، ولم تكن بلا فائدة، فلكل مثل قيل، قصة وحكاية، وفيها العبرة والعظة، وأما المثل الذي بين أيدينا اليوم فهو “سبق السيف العذل”، وهو يُضرب عند التسرع في اتخاذ القرار، وتنفيذه دون التمعن في عواقبه.
قصة مثل “سبق السيف العذل”:
تدور أحداث مثل “سبق السيف العذل”، عن رجل يُدعى “ضبة ابن أد”، وقد كان له ابنان، أحدهما يُدعى سعد وأما الآخر فكان سُعيد، وفي يوم من الأيام خرج ضبة في الليل، كي يرعى الإبل وكان أباؤه بصحبته، وفي أثناء سيرهم تفرقت الأبل وتشتت في جميع الاتجاهات، فطلب من ولديه أن يحضراها مرة أخرى.
ذهب الأخوان “سعد وسُعيد”، وتفرقا كل واحد منهما باتجاه، وبعد فترة قليل رجع سعد وكانت الإبل معه، أما أخوه سُعيد فلم يرجع، إذ إنه قابل رجلًا يُدعى “الحارث بن كعب”، بينما هو في طريق عودته لأبيه، فرأى عليه الحارس بردين، فطلبهما منه، غير أنه أبى أن يعطيه إياهما، فقام الحارث بن كعب بقتله، وأخذ البردين منه ثم مضى.
منذ ذلك الوقت لم يسمع ضبة أيّ شيء عن ابنه سُعيد، وكان ضبة إذا أمسى فرأى تحت الليل خيالًا قال: أسعد أم سُعيد؟ يقصد هل عاد سعد بالإبل، أم أن سُعيدًا لم يعد؟ فذهب قوله هذا مثلًا يُضرب في النجاح والخيبة، ولم يدرِ ضبة إلى أين رحل ابنه سُعيد، حتى جاء يوم خرج به ضبة إلى الحج، ثم اتجه إلى سوق عكاظ، وهناك رأى البردين على كتف رجل فعرفهما، فأوقف الرجل وسأله عنهما، فقال الحارث: إنهما لغلام قابلته ليلًا، فلما طلبتهما منه رفض، فقتلته وأخذتهما منصرفًا.
أدرك ضبة بن أد وقتها أنه أمام قاتل ابنه، فقال له: أبسيفك هذا قتلت الغلام؟ قال: نعم. قال ضبة: ألا ترني إياه، فإني أظنه صارمًا، فأعطاه إياه، فلما أخذه منه هزه، وقال: “إن الحديث ذو شجون”، أي ذو طُرق، الواحد شَجن، والشواجن: أودية كثيرة الشجر، الواحدة شَاجنة، وأصل هذه الكلمة الاتصال والالتفاف، ومنه الشجنة، والِشجنة: الشجرة الملتفة الأغصان، ويُضرب هذا المثل في الحديث الذي يُتذكر به غيره.
طلب ضبة السيف الذي كان يحمله الحارث ليراه، فقام الحارث بإعطائه السيف، فأسرع ضبة ووجه الطعنة إلى صدره، وأرداه قتيلًا، وما إن رأى الناس هذا حتى تجمعوا حوله قائلين: أفي الشهر الحرام يا ضبه؟ فقال لهم: “سبق السيف العذل”، والعذل هنا يقصد به العتاب، أي سبق سيفي عتابكم.
العبرة من مثل “سبق السيف العذل”:
يُضرب مثل “سبق السيف العذل”، عندما يتخذ المرء القرارات السريعة بلا تأنٍ أو تفكير، وأما العبرة هنا أن نفكر كثيرًا قبل أن نقدم علي فعل شيء نندم عليه فيما بعد، وصدق من قال في التأني السلامة، وفى العجلة الندامة، فما أكثر الذين يقدمون على العمل بتسرع وقبل إعمال الفكر، وتقليب الأمور على وجوهها المختلفة، حتى إذا فاجأتهم النتيجة التي لم تكن في الحسبان، وجرت عليهم بالخسارة والفشل، راحوا يلومون أنفسهم من غير طائل، فما فائدة اللوم بعد مضي الفعل، وانقضاء الأمر؟ لقد “سبق السيف العذل”، كما عبرت العرب في المثل أصدق تعبير، إذ ذهب قول ضبة بن أد مثلًا، والمعنى هو أن الأمر قد مضى وانقضى وسبق، فما الفائدة من اللوم؟
الأمثال في نظم الشعراء:
في هذا المعنى تسابق الشعراء ينظمون القصائد وأبيات الشعر؛ كي يعبروا عن هذا المعنى الذي صاغه ضبة بن أد مثلًا موجزًا، بليغًا، ومن هؤلاء الشعراء الفرزدق، الذي قال معبرًا عن مثل “الحديث ذو شجون”: “لاتأمنَنَّ الحربَ إنَّ اسْتِعَارَها كَضَبَّةَ إذ قال: الْحَدِيثُ شُجُونُ”.
في معنى مثل “سبق السيف العذل”، إذ إنه لا شيء يفيد في ثبات الأشخاص على العهد والولاء، كاللوم بعد أن يكون السيف قد ضرب ضربته، يقول الطغرائي في لاميته: “إن كـــان ينجـــع شيء في ثباتهم على العهود، فسبق السيف للعذل”.
أما الشاعر جرير فقد قال:
يُكلفــني رد الغـــــرائب بعــــــدما سبقن كسبق السيف ما قال عاذله.
ويقول السراج الوراق:
قلـــت إذ جـــرد لحــــــــظ حــــدّه يـــــدني الأجـــــــل
يا عـــــذولي كــفّ عـــني ســبـــــق الســيــف العذل.
أما ابن نباته السعدي، فقال:
يا أهل بابل عـــزمي قبله فكــــري في النائبات وســيفي يسبق العذلا.
وقال أبو الطيب المتنبي:
تُرابهُ في كــلابٍ كُحـل أعينها وسـيفه في جَنابٍ يسبق العذلا.