اقرأ في هذا المقال
وُلِد الفيلسوف موريس بلانشوت عام 1907 في كوين وهي بلدة في سون إي لوار في فرنسا، وكانت عائلته محافظة وكاثوليكية، وشجع والده بلانشوت وإخوته على ممارسة اللاتينية على طاولة المطبخ، ودرس بلانشوت الفلسفة والألمانية في جامعة ستراسبورغ التي كانت في ذلك الوقت تضم واحدة من أكثر المكتبات شمولاً في فرنسا.
الحياة المبكرة والصحافة:
حوالي عام 1925 أو 1926 التقى بلانشوت لأول مرة مع إيمانويل ليفيناس وأصبح الاثنان صديقين مدى الحياة، وبحلول عام 1929 انتقل بلانشو إلى باريس وواصل لفترة وجيزة خلال أوائل الثلاثينيات دراسة الطب في مستشفى سانت آن، وفي هذا الوقت تقريبًا بدأ بلانشوت تعاونه الأول مع مجلات اليمين المتطرف الفرنسي، ومن خلال تبني لهجة مناهضة لهتلر بشدة تحسر مقالات بلانشوت على التراخي الملحوظ للحكومة الفرنسية في معالجة التهديد المتزايد للتوسع الألماني.
خضعت كتابات بلانشوت من هذه الفترة إلى تمحيص شديد، وكذلك في السنوات الأخيرة بسبب نسبهم المزعومة إلى التيارات المعادية للسامية في اليمين المتطرف الفرنسي، ومع ذلك فإنّ الفحص الشامل لجميع المقالات التي وقعها بلانشو خلال الثلاثينيات من القرن الماضي لا يكشف عن أي حالات للغة الإقصائية العنصرية أو معاداة السامية العلنية، وفي كتاباته اللاحقة تناول بلانشوت التزاماته السياسية المشكوك فيها في الثلاثينيات ساعيًا إلى إزالة الغموض عن انخراطه الشبابي في السياسة الرجعية من معاداة السامية التي مارسها زملاؤه في السابق.
مع اندلاع الحرب في أوروبا انسحب بلانشوت مؤقتًا من الكتابة السياسية وركز جهوده على كتابة النصوص الخيالية والنقد الأدبي، ونُشرت روايته الأولى توماس الغامض (Thomas the Obscure) في عام 1941، حيث قوبلت في البداية بمراجعات سيئة في الصحافة الباريسية، ثم نُشرت رواية ثانية أميناداب (Aminadab) في عام 1942.
خلال هذا الوقت كان بلانشوت قد بدأ بالفعل في تطوير صوت أدبي نقدي مميز، فظهرت مجموعته الأولى من المقالات الأدبية النقدية بعنوان خطأ أو الزلة (Faux pas) في كانون الأول عام 1943، وتضم نصوصًا عن مجموعة متنوعة من الكتاب بما في ذلك مالارمي وبروست وكيركيغارد ورامبو وملفيل.
تأثير جورج باتايلي على بلانشوت:
كانت أوائل الأربعينيات من القرن الماضي فترة تكوينية بشكل خاص في حياة بلانشوت، وقرب نهاية عام 1940 قدم بيير بريفوست بلانشوت إلى الفيسلوف الفرنسي جورج باتايلي، وسيتم تكوين رابطة وثيقة بشكل لا يصدق بين الرجلين بحيث استمرت حتى وفاة باتايلي في عام 1962، وفي الوقت الذي التقيا فيه لأول مرة كان باتايلي يعمل بجد على كتاب نيتشه وتفسير باتايلي للفيلسوف الألماني على أنّه غير غائي جذريًا.
المفكر والخصم الطبيعي لهيجل سيثبت أنّه مؤثر بشكل كبير ليس فقط على بلانشوت ولكن على جيل كامل من المثقفين الفرنسيين، وبناءً على دعوة باتايلي أصبح بلانشوت مشاركًا منتظمًا في المناقشات الفلسفية نصف الشهرية حيث التقى بلانشوت بدينيس رولين الذي دخل معه لاحقًا في علاقة وثيقة، وجنبًا إلى جنب مع باتايلي ساعد بلانشوت في صياغة مشروع فاشل لـ(كلية سقراط) في أواخر عام 1942، وفي آذار 1944 كان بلانشوت حاضرًا في مناقشة حول الخطيئة الشهيرة التي نظمها باتايلي وحضرها كامو ومريلو بونتي وسارتر وكلوسوفسكي وغيرهم.
على مدى العقود التي تلت ذلك كان بلانشوت يتعامل بشكل متكرر مع كتابات باتايلي شديدة التأثير سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وذات أهمية خاصة في تاريخ تأثير باتايلي مقال بلانشوت عام 1962 (التجربة المحدودة) الذي أعيد نشره لاحقًا في المحادثة اللانهائية عام 1969، ونص عام 1971 بعنوان الصداقة بالإضافة إلى الجزء الأول من نص بلانشوت (مجتمع غير مرغوب فيه).
كان ربيع عام 1944 وقتًا عصيبًا لكلا الرجلين حيث أصبح باتايلي مريضًا جدًا وغادر باريس مؤقتًا متجهًا إلى ساموا، بينما غادر بلانشوت نفسه إلى منزل عائلته في كوين، وهنا عام 1944 تم وضع بلانشوت مقابل الحائط من قبل فرقة إطلاق نار وإعدام وهمي، وهذه الظروف الرائعة والمؤلمة بلا شك حيث روى بلانشوت لاحقًا بعد حوالي خمسين عامًا في نصه (لحظة موتي) عام 1994.
مع استسلام الجيش الألماني في باريس في 25 آب انتهت الحرب فعليًا بالنسبة لبلانشوت الذي كان يتنقل بين باريس ومناطق مختلفة في جنوب فرنسا طوال عامي 1945 و1946، فصاغ بلانشوت مقالات مهمة عن كافكا ورينيه شار ونيتشه وهولدرلين، بينما كان يساعد باتايلي في نشر الطبعة الأولى من المجلة النقدية.
ما بعد عام 1946 إلى الخمسينيات:
شهد شتاء عام 1946 بداية مرحلة جديدة في حياة بلانشوت ككاتب، وانتقل لعدة أسابيع إلى منزل صغير في أوز (Èze) بالقرب من نيس حيث عاش بدون كهرباء وعمل على إعاقاته في الليل، وعلى مدار السنوات التالية فازت سمعة بلانشوت ككاتب إلى حد كبير، وأكمل روايته الرائعة الخفية عقوبة الإعدام (cryptic récit) في عام 1947 ونُشرت في يونيو 1948.
نُشرت روايته الثالثة (والأخيرة) الأعلى (The Most-High) التي تتميز بميل سياسي أكثر في عام 1948، ثم تلاها نص خيالي جنون اليوم (The Madness of the Day) عام 194 ، ومجلد آخر من المقالات النقدية عمل النار (The Work of Fire) عام 1949، والتي تضمنت النص الأساسي (الأدب والحق في الموت) ونُشر لأول مرة عام 1948، وبعد عقد من الإنتاجية المذهلة نُشر لوتريامونت وساد (Lautréamont and Sade) عام 1949.
عند هذه النقطة كان بلانشوت ينتج مقالًا نقديًا جديدًا للنشر تقريبًا كل أسبوعين، وخلال هذه الفترة من الكتابة الغزيرة استمر في التنقل بشكل متكرر حيث أقام مع شقيقه رينيه كلما وجد نفسه في باريس، وعام 1949 عاد إلى المنزل الصغير في أوز والذي كان يقيم فيه حتى 1957، ووسط العزلة الأساسية لهذه القرية التي تعود للقرون الوسطى المطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط كتب بلانشوت بعضًا من أكثر المقالات النقدية تأثيرًا في حياته المهنية بما في ذلك الكتابات النظرية الواردة في فضاء الأدب عام 1955.
ربما كانت الكتابات الموجودة في فضاء الأدب هي أكثر شهرة بلانشوت، فنجد روايته التي يستشهد بها كثيرًا عن نظرة أورفيوس نوعي الموت و(في ملحق النص) النسختين الوهميتين، وفي قلب كتابات بلانشوت هنا والتي تتعامل بدورها مع كافكا وريلكه ومالارمي وهولدرلين توجد أطروحة حول اللاجوهرية الراديكالية للأدب وضرورة عدم العمل (désoeuvrement) وهو هدف الأدب واهتمامه.
إذا كانت قصة أورفيوس ويوريديس مهمة في هذا السياق فذلك لأنّ أورفيوس يظهر لنا في العودة إلى التحديق في يوريديس اهتمامًا بأصل العمل وغيابه وإلهامه، مما يتجاوز أي اهتمام بمكانته مثل عمل مكتمل، وبالتحول لرؤية يوريديس يفسد أورفيوس العمل لإخراجها من الظلام ومع ذلك فإنّ هذا الخراب يصر بلانشوت في مقالته عام 1953 على ما هو أكثر أهمية في الأدب ألّا وهو قلقه من الاستحالة والغياب الملموس الذي يكمن في أصله، ولا يتعلق الأدب بإكمال الأعمال العظيمة بقدر ما يتعلق بالحفاظ على علاقة متناقضة مع عدم العمل والاستحالة التي تؤدي إلى كشف كل عمل.
هذا التأكيد غير الغائي والذي يتجلى أيضًا في تصوير بلانشوت لكافكا وهو يتجول بلا حدود خارج كنعان، يظهر أيضًا في مقال بعنوان (الإصداران من الخيال) الذي نُشر لأول مرة عام 1951 وتم تضمينه كملحق داخل فضاء الأدب، فيضع بلانشوت بشكل استفزازي نسختين من الصورة الأدبية، ونسخة واحدة مرتبطة بشكل واضح بهيجل ومالارمي تنظر إلى الصورة على أنّها نفي الحياة للشيء، حيث إنّه يضع الشيء المعني على مسافة منا من أجل مساعدتنا على فهمه بمثاليته وبالتالي تسهيل المعرفة المنتجة.
ثم تتم مقارنة الاسترداد الإنتاجي لهذا النوع من الصور في وصف بلانشوت بالخيال الآخر الموجود خارج العالم وإمكانياته للمعرفة والفهم، فلا يشير اللمعان الجذاب للصورة إلى غياب الشيء بل إلى المسافة (والاختلاف) التي تفصل دائمًا كل شيء عن نفسه مما يحول دون أي إمكانية لاسترداد غائي أنيق، ففي رفضه لإخضاع الاختلاف في الهوية والمسافة إلى الوجود يتوقع بلانشوت بالفعل صعود المحاكاة التي ستلعب مثل هذا الدور البارز في نظريات ما بعد البنيوية للعقود القادمة.
بالإضافة إلى مقالاته الأدبية النقدية المؤثرة شهدت الخمسينيات أيضًا نشر ثلاث مقالات أخرى وهي أكثر تجنيبًا وتحديًا وهي:
1- عندما يأتي الوقت (When the Time Comes) عام 1951.
2- الشخص الذي لم يرافقني (The One Who Did Not Accompany Me) عام 1953.
3- الرجل الأخير (The Last Man) عام 1957.
حيث يتم تقليص تطوير الحبكة والتوصيف إلى أدنى حد ممكن كما لو كان لإبراز تفكك الوجود وتعطيل الوقت الذي تشهد عليه كل هذه النصوص.