حياة الفيلسوف بلانشوت من أواخر الخمسينيات إلى وقت وفاته

اقرأ في هذا المقال


كان الفيلسوف والكاتب موريس بلانشوت أحد أهم كتاب القرن العشرين، ومارست رواياته والنقد الأدبي والنصوص المجزأة تأثيرًا هائلاً على عدة أجيال من الكتاب والفنانين والفلاسفة، وأنتج بلانشوت بعضًا من أكثر البيانات ثباتًا عما يعنيه تجربة الصدمات والاضطرابات في القرن العشرين.

عودة إلى السياسة:

توفيت والدة بلانشوت في عام 1957 وبكل المقاييس فقد أثر وفاتها على الأسرة بشكل كبير، وبعد قضاء الشتاء مع شقيقه وزوجة أخته في باريس انتقل بلانشوت إلى شقته الخاصة في شارع مدام في أواخر صيف عام 1958 ليبدأ مرحلة جديدة في خط سيره الفكري والشخصي، وكانت العودة إلى باريس عام 1957 مهمة في عدد من النواحي ومنها:

1- أولاً كان بمثابة علامة على انخراط متجدد في السياسة الوطنية.

2- ثانيًا تزامن ذلك مع التركيز المتزايد على الأسئلة ذات الطبيعة الفلسفية الصريحة التي استدعت أسلوبًا جديدًا وأكثر صرامة وتطلبًا في الكتابة.

أدت أزمة الجزائر عام 1958 وانهيار الجمهورية الفرنسية الرابعة وصعود ديجول إلى السلطة إلى حقبة جديدة مخيفة في السياسة، فبلانشوت الذي لم يشارك في السياسة الوطنية منذ ثلاثينيات القرن الماضي ألقى بنفسه في وسط المقاومة ضد جمهورية ديجول الخامسة، وطوال أواخر صيف عام 1958 التقى مرارًا مع مارجريت دوراس وديونيس ماسكولو (كان له تأثير كبير على التفكير السياسي لبلانشوت خلال هذا الوقت)، وانخرط في ورقة ماسكولو المناهضة للديجولية (شارك في تأسيسها مع جان شوستر).

كان التغيير الملحوظ في التفكير السياسي لبلانشوت واضحًا في بيانه (رفض) الذي نُشر في عام 1958 وفي مقال آخر مناهض للديجول الشذوذ الأساسي (The Essential Perversion).

عندما حوكم فرانسيس جينزين وثلاثة وعشرون منشقًا آخر عام 1960 لمعارضتهم الحكم الاستعماري الفرنسي ودعم النضال الجزائري من أجل الاستقلال، قرر بلانشوت وماسكولو ومجموعة من المثقفين الآخرين كتابة إعلان تضامن مع المدعى عليهم، والقطعة الناتجة والمعروفة باسم (Manifeste de 121) كتبها بلانشوت وأعلنت دعمها لاستقلال الجزائر وكذلك لأولئك المجندين الذين رفضوا التجنيد في الصراع.

في أعقاب هذا التدخل في السياسة الوطنية حاول بلانشوت وماسكولو (جنبًا إلى جنب مع آخرين) عام 1960 بدء إصدار تجريبي جديد يسمى (المجلة الدولية)، ويطمح المنشور إلى التماس نصوص قصيرة حول مجموعة متنوعة من الموضوعات بثلاث لغات (الفرنسية والألمانية والإيطالية) ليتم كتابتها في شكل مجزأ، وعلى الرغم من أنّ المشروع الطموح لم يتحقق بالكامل إلّا أنّه يمثل لحظة مبكرة مهمة في محاولة بلانشوت لإعادة التفكير في فكرة المجتمع خارج الحدود والهوية الثابتة.

الاستجابة للآخر:

شهدت أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات بالإضافة إلى التركيز المتجدد على السياسة ظهور ابتكارات أسلوبية ونظرية مهمة في كتابات بلانشوت، ففي عام 1958 استخدم بلانشوت لأول مرة في كتاباته المنشورة فكرة (le neuter) كعنصر نائب معجمي لتتبع ما تبقى خارج الوجود والعدم، وستنمو فكرة المحايد في كتابات بلانشوت على مدى العقود القادمة لتشكل واحدة من أهم الاستعارات في كتاباته اللاحقة.

في نفس الوقت تقريبًا عام 1958 نشر بلانشوت عملًا جديدًا ومهمًا عن نيتشه حيث واجه وجهاً لوجه محاولة الاستيلاء الفاشستي على إرث المفكر، وسعيًا إلى إعادة تأهيل نيتشه كمفكر مقاوم جوهريًا لكل الفكر الشامل (الفاشي)، وقبل ذلك بعام بدأ بلانشوت العمل على النص الذي يحمل عنوان (الانتظار) والذي سيظهر في النهاية في نص عام 1962 في انتظار النسيان.

(الانتظار) مهم لعدة أسباب حيث إنّه نص يتألف فقط من شذرات ملتصقة بشكل فضفاض من خلال التركيز المشترك على موضوعات النسيان والانتظار والزمنية المجردة من الوجود، وفي عام 1959 قدم بلانشوت هذه الأجزاء إلى مهرجان فيستكريفت تم إنتاجه تكريمًا لميلاد هايدجر السبعين، وتضمن نشر في انتظار النسيان تخريبًا جذريًا لفئات النوع، حيث القراء متروكون للتفكير: هل هو عمل خيالي تجريبي؟ هل هو نص فلسفي؟ أم أنّه شيء آخر تمامًا؟

(في انتظار النسيان) يطرح بلانشوت شكلاً من أشكال الكتابة المجزأة التي ترفض الإحاطة داخل أي نوع ثابت لتكون بمثابة شهادة، وبدلاً من ذلك على ما يفلت من كل تصنيف وكل مواضيع وكل تعريف، كما إنّه نص مخصص للتغير الجذري وبالتالي إلى المحايد نفسه.

هذه التطورات في فكر بلانشوت ستستكمل قريبًا بكتابات صديق قديم، ففي عام 1961 نشر ليفيناس كتابه الرائد الكلية واللانهاية (Totality and Infinity)، حيث إنّ تفسيره للميتافيزيقا الأخلاقية المبنية على عبء مسؤولية الإنسان المستحيل تجاه الآخر، وسيثبت تأثيره على بلانشوت الذي تحولت كتاباته منذ عام 1961 فصاعدًا بشكل حاسم إلى مجال الأخلاق السياسية.

مفتاح هذه التطورات في تفكير بلانشوت هو بروز المحايد المتزايد، وإنّه المحايد الذي يتصوره بلانشوت كمفهوم يحل محل أسبقية الأنطولوجيا ويفتح مساحة علاقة أخلاقية-سياسية دائمًا ما تأتي بعد، وغير قابلة للاختزال دائمًا للاندماج أو الهوية أو الوحدة، وبالتالي فإنّ المحايد بمثابة رد استفزازي لكل من هايدجر وهيجل اللذين تعطي فلسفاتهما (رغم اختلافها تمامًا) الأولوية بالمثل وذلك من وجهة نظر بلانشوت للاحتضان الشامل للكينونة، وخلال هذه الفترة استمر بلانشوت أيضًا في استخلاص التأثير من نصوص نيتشه حيث تُمنح ضرورة الكتابة المجزأة صوتها الأسمى.

نُشرت عام 1969 المحادثة اللانهائية التي تحتوي على مقالات نقدية حول مجموعة من الموضوعات الأدبية (شار ودوراس والرومانسية الألمانية وكافكا وفلوبير وروسيل)، بالإضافة إلى مقالات تتناول الاعتبارات الفلسفية والنظرية (ليفيناس وسيمون ويل ونيتشه وهايدجر وفرويد وباتايلي وفوكو)، والتي تتخللها بدورها حالات من التجزئة والحوار بين محاورين لم يتم ذكر أسمائهم.

المحادثة اللانهائية هي بلا شك أكثر نصوص بلانشوت تنوعًا من حيث الأسلوب حيث تجمع بين النصوص المجزأة والمزيد من الكتابات النقدية الأدبية القياسية مثل تلك الموجودة في فضاء الأدب أو الكتاب ليأتي عام 1959، وإنّه نص بدون نقطة مركزية وبدون موضوع موحد واحد ما لم يكن هذا الموضوع هو حركة التشتت والتفكك التي أدت دائمًا إلى زعزعة كل مظاهر الوحدة وفضحت كل الباطنية لما هو خارجها جذريًا.

خلال أحداث عام 1968 وجد بلانشوت نفسه في قلب الحركة المناهضة للاستبداد كعضو في لجنة العمل الطلابي والكاتب، فكتب بلانشوت العديد من المقالات غير الموقعة لمجلة المجموعة (لجنة) واعتنق سياسة راديكالية تقوم على رفض جميع أشكال النظام السياسي القائم حتى الآن وهي: شيوعية بدون شيوعية، ومع ذلك بحلول منتصف عام 1969 نأى بلانشوت بنفسه عن المجموعة مستشهداً كسبب (في رسالة إلى ليفيناس) بموقفه الداعم لفلسطين ومعارضة دولة إسرائيل.

مع بداية السبعينيات كان هناك تغيير حقيقي في الحرس، ومع دخول ما بعد البنيوية إلى ذروتها ومع قيام دريدا ودولوز بإنتاج العديد من كتاباتهما الأساسية، بدأت صحة بلانشوت في التدهور بشكل حاد وبدا الموت في كل مكان حوله، حيث توفي جان بولهان عام 1969 ثم أغرق بول سيلان نفسه في نهر السين في عام 1970، وعانى بلانشوت بنفسه من دخول المستشفى في أوائل السبعينيات، وفي أوائل عام 1972 كتب رسائل إلى أقرب أصدقائه يشكرهم كما لو كان بأثر رجعي على الحياة التي كان يتمتع فيها بشرف لقاءهم.

نصه الصادر في عام 1973 الخطوة التي لا تليها (The Step Not Beyond) الذي كتب بالكامل في شكل مجزأ، يشبه أحيانًا التأمل في الموت على الرغم من أنّه ليس على أنّه بيان من واقعه الوشيك ولكنه شهادة على استحالة ذلك اللانهائية، حيث يصر بلانشوت على أنّ فعل الكتابة يجعلنا نقضي وقتًا بلا حاضر مما يجعل عملية الموت بلا نهاية ولحظة الموت بعيد المنال.


شارك المقالة: