ديفيدسون وفلسفة التفسير الراديكالي

اقرأ في هذا المقال


يُعرف عمل الفيلسوف دونالد هربرت ديفيدسون جيدًا بوحدته حيث قدم نهجًا مشابهًا لمجموعة متنوعة من المشكلات الفلسفية، فالتفسير الراديكالي هو وجهة نظر افتراضية يعتبرها ديفيدسون أساسية للتحقيق في اللغة والعقل والفعل والمعرفة.

التفسير الراديكالي لدى كوين:

ويتضمن التفسير الراديكالي تخيل أنّ المرء يوضع في مجتمع يتحدث لغة لا يفهمها المرء على الإطلاق، وأحد الاقتراحات لفهم اللغة هو أنّ المرء يعرف نظرية تولد نظرية للصيغة (s) تعني أنّ (p)، ولكل جملة من لغة الكائن (أي لغة المجتمع)، حيث (s) هو اسم الجملة في لغة الكائن و(p) هي تلك الجملة أو ترجمة لها في اللغة المعدنية (metalanguage) -وهي شكل من أشكال اللغة أو مجموعة المصطلحات المستخدمة لوصف أو تحليل لغة أخرى- التي يتم التعبير عن النظرية بها.

تتمثل استراتيجية ديفيدسون في تضمين البنية الرسمية لنظرية المعنى -من حيث الهيكل الذي يجده في نظرية الحقيقة الترسكية- ضمن نظرية أكثر عمومية للتفسير، فالخطوط العريضة التي استمدها من مناقشة الفيلسوف كوين في كلمة وكائن (Word and Object) والذي نُشر لأول مرة في عام 1960، ويهدف كوين إلى الترجمة الراديكالية باعتبارها نموذجًا مثاليًا لمشروع الترجمة الذي سيعرض هذا المشروع في أنقى صوره.

عادةً ما تكون مهمة المترجم مدعومة بمعرفة لغوية سابقة إما باللغة الفعلية المراد ترجمتها أو ببعض اللغات ذات الصلة، ويتصور كوين بأنّ هناك حالة يجب أن تستمر فيها ترجمة اللغة دون أي معرفة لغوية سابقة وعلى أساس السلوك الملحوظ للمتحدثين باللغة جنبًا إلى جنب مع ملاحظة المحفزات الإدراكية الأساسية التي تؤدي إلى هذا السلوك، ولدى ديفيدسون مفهوم أوسع للأدلة السلوكية المتاحة مما يفعله كوين، بالإضافة إلى رفض الإصرار الكويني على إعطاء دور خاص للمحفزات الإدراكية البسيطة.

مفهوم التفسير الراديكالي لدى ديفيدسون:

علاوة على ذلك نظرًا لأنّ اهتمام ديفيدسون أكثر دقة من كوين حيث يرى كوين الترجمة الجذرية كجزء من التحقيق المعرفي في المقام الأول، بينما يرى ديفيدسون أيضًا أنّ نظرية الترجمة وحدها غير كافية لضمان فهم اللغة التي تترجمها والتي قد تكون الترجمة إلى لغة من الممكن أن لا نفهمها، لذلك يتم استبدال فكرة الترجمة في حساب ديفيدسون بمفهوم التفسير.

بالنسبة إلى ديفيدسون التفسير الراديكالي هو مسألة تفسير السلوك اللغوي للمتحدث من الصفر، وهكذا دون الاعتماد على أي معرفة مسبقة إما بمعتقدات المتحدث أو معاني أقوال المتحدث، والغرض منه هو الكشف عن المعرفة المطلوبة إذا كان الفهم اللغوي ممكنًا، ولكنه لا يتضمن أي ادعاءات حول إمكانية إنشاء مثيل لتلك المعرفة في أذهان المترجمين الفوريين، وبالتالي لا يقدم ديفيدسون أي التزامات بشأن الواقع النفسي الأساسي للمعرفة التي توضحها نظرية التفسير.

المشكلة الأساسية التي يجب أن يعالجها التفسير الراديكالي هي أنّه لا يمكن للمرء أن يعين معاني لأقوال المتحدث دون معرفة ما يعتقده المتحدث، بينما لا يستطيع المرء تحديد المعتقدات دون معرفة ما تعنيه أقوال المتحدث، ويبدو أنّه يجب علينا تقديم كل من نظرية الإيمان ونظرية المعنى في وقت واحد، ويدعي ديفيدسون أنّ الطريقة لتحقيق ذلك هي من خلال تطبيق ما يسمى مبدأ العمل الخيري، وقد أشار ديفيدسون أيضًا إلى ذلك على أنّه مبدأ التوافق العقلاني، والذي يمكن العثور على نسخة منه أيضًا في كوين.

في عمل ديفيدسون هذا المبدأ الذي يعترف بصيغ مختلفة ولا يمكن تقديمه بأي شكل دقيق تمامًا، وغالبًا ما يظهر من حيث الأمر إنذار قضائي لتحسين الاتفاق بيننا وبين أولئك الذين نفسرهم، أي أنّه ينصحنا بتفسير المتحدثين على أنّهم صواب، فالمعتقدات (صادقة من خلال أضواءنا على الأقل)، وفي الواقع يمكن النظر إلى المبدأ على أنّه يجمع بين مفهومين وهما افتراض شمولي للعقلانية في الاعتقاد (التماسك) وافتراض العلاقة السببية بين المعتقدات -وخاصة المعتقدات الإدراكية- وموضوعات الاعتقاد (التطابق).

تبين أنّ عملية التفسير تعتمد على كلا جانبي المبدأ، ويجب أن تكون سمات المعتقدات وتخصيصات المعنى متسقة مع بعضها البعض ومع السلوك العام للمتحدث، ويجب أيضًا أن تكون متسقة مع الأدلة التي توفرها معرفتنا ببيئة المتحدث، ونظرًا لأنّها الأسباب الدنيوية للمعتقدات التي يجب في الحالات الأساسية واعتبارها أهدافًا للاعتقاد، وبقدر ما تؤخذ الصدقة لتوليد صفات معينة من الإيمان فإنّ هذه الصفات بالطبع قابلة للإلغاء دائمًا.

ومع ذلك فإنّ المبدأ نفسه ليس كذلك لأنّه يظل وفقًا لتقرير ديفيدسون افتراضًا مسبقًا لأي تفسير على الإطلاق، وتعتبر الأعمال الخيرية في هذا الصدد قيدًا ومبدأً تمكينيًا في جميع التفسيرات، وذلك إنّها أكثر من مجرد أداة إرشادية يتم استخدامها في المراحل الأولى من المشاركة التفسيرية.

إذا افترضنا أنّ معتقدات المتحدث على الأقل في أبسط الحالات وأكثرها أساسية تتفق إلى حد كبير مع معتقداتنا، وبالتالي وفقًا لتقريرنا صحيحة إلى حد كبير فيمكننا استخدام معتقداتنا الخاصة حول العالم كدليل لمعتقدات المتحدث، وبشرط أن نتمكن من تحديد الكلام التأكيدي البسيط من جانب المتحدث (أي بشرط أن نتمكن من تحديد موقف التمسك بالصدق)، فإنّ الترابط بين الإيمان والمعنى يمكننا من استخدام معتقداتنا كدليل للمعاني لأقوال المتحدث، ونحصل على الأساس لكل من النظرية البدائية للاعتقاد والتفسير البدائي للمعنى.

لذلك على سبيل المثال عندما يستخدم المتحدث الذي نتعامل معه سلسلة معينة من الأصوات بشكل متكرر في وجود ما نعتقد أنّه أرنب، ويمكننا كفرضية أولية تفسير هذه الأصوات على أنّها أقوال عن الأرانب أو عن بعضها أرنب معين، وبمجرد أن نصل إلى تعيين أولي للمعاني لمجموعة كبيرة من الكلمات المنطوقة، ويمكننا اختبار مهامنا مقابل المزيد من السلوك اللغوي من جانب المتحدث، وتعديل تلك التخصيصات وفقًا للنتائج.

باستخدام نظرية التطور الخاصة بنا في المعنى ويمكننا بعد ذلك اختبار السمات الأولية للاعتقاد التي تم إنشاؤها من خلال تطبيق الأعمال الخيرية وعند الضرورة تعديل هذه الصفات أيضًا، وهذا يمكننا بدوره من تعديل تعييناتنا للمعنى بشكل أكبر مما يتيح مزيدًا من التعديل في إسناد المعتقدات، وهكذا تستمر العملية حتى يتم الوصول إلى نوع من التوازن.

وبالتالي فإنّ تطوير نظرية أكثر دقة للاعتقاد يسمح لنا بتعديل أفضل لنظرية المعنى لدينا، في حين أنّ تعديل نظريتنا في المعنى يمكّننا بدوره من ضبط نظريتنا في الإيمان بشكل أفضل، وذلك من خلال موازنة سمات المعتقد مقابل تخصيصات المعنى، ويمكننا التحرك نحو نظرية شاملة للسلوك للمتحدث أو المتحدثين التي تجمع بين نظرية المعنى والاعتقاد ضمن نظرية واحدة للتفسير.


شارك المقالة: