راسل ومشكلة سيدجويك ورفض الفلسفة المثالية

اقرأ في هذا المقال


“لقد أطلقنا عليه اسم سيدج القديم واعتبرناه مجرد شخص عفا عليه الزمن” هكذا قال برتراند راسل عن معلمه الفيلسوف الأخلاقي الفيكتوري العظيم هنري سيدجويك، على الرغم من أنّه اعتقد لاحقًا أنّه ومعاصريه لم يعطوا سيدجويك ما يستحقه من الاحترام.

تأثر راسل بفلسفة سيدجويك:

بالرغم من أنّ راسل قد اعتبر سيدجويك ضبابًا قديمًا، إلّا أنّه وضع جدول أعمال الكثير من فلسفة وأعمال راسل حول الأخلاق في تسعينيات القرن التاسع عشر، وبالنسبة إلى راسل كان كثيرًا ما يمارس مشكلة أزعجت سيدجويك أيضًا وهي ثنائية العقل العملي، حيث أصبح من الواضح تمامًا مدى انشغال سيدجويك بهذه المشكلة.

وفقًا لسيدجويك من المنطقي أن تفعل ما هو صواب أخلاقيًا من خلال تعظيم الوعي الممتع من جانب جميع الكائنات الحية، ومن المنطقي أيضًا أن تفعل ما هو صواب بحذر عن طريق تعظيم الوعي الممتع من جانب الذات، ولكن عندما يكون تعارض بين الاثنان لا يبدو أنّ أحدهما أكثر عقلانية من الآخر، فإذا كان الله موجود فيمكنه ضمان أنّه سيدفع على المدى الطويل لتعزيز المصلحة العامة، وذلك من خلال مكافأة الصالحين في الحياة الآتية.

وما هو صحيح أخلاقيًا سيتوافق مع ما هو صحيح من الناحية الاحترازية وهذا بالتالي هو ما سيأمر به العقل العملي، ولكن إذا كان سيدجويك يميل على مضض إلى التفكير أنّه ليس هناك إله، فإنّ ما هو صحيح أخلاقياً وما هو حق احترازي سوف ينفصل أحيانًا وسيتحدث العقل العملي بصوت منقسم.

وإذا لم يكن من المفيد دائمًا أن تكون جيدًا، فليس من الواضح ما إذا كان من المنطقي أن تكون جيدًا أكثر من أن تكون سيئًا وهو استنتاج وجده سيدجويك مزعجًا للغاية، وانزعج راسل الشاب المتعصب إلى حد ما من المشكلة أيضًا، حيث قال إنّ الحل سيكون: “إضافة قوية حقيقية لسعادتي”، وذلك لأنّه مثل سيدجويك لم يؤمن بالله.

فلسفة سيدجويك في مفهوم المطلق:

ولكن بصفته فيلسوفًا شابًا عصريًا في تسعينيات القرن التاسع عشر كان يؤمن بشيء حيث يعتقد أنّه سيفعله جيدًا تقريبًا وهو المطلق، وفي هذا الوقت كان راسل مثل معظم معاصريه الفلسفيين في العالم الناطق باللغة الإنجليزية هيغليًا جديدًا أو مثاليًا مطلقًا.

وعلى الرغم من أننا قد يبدو أننا نعيش في عالم مادي وأننا أولاد وفتيات ماديون، إلّا أنّ هذا مظهر فقط، والواقع المطلق هو في الأساس عقلي، وهو نوع من عقل المجموعة المتناغم والخالد الذي تكون فيه ذواتنا المنفصلة جوانب وربما تكون وهمية) كما قال الفيلسوف فرانسيس هربرت برادلي:

“المطلق هو نظام واحد ومحتوياته ليست سوى تجربة واعية، ومن ثم ستكون تجربة واحدة وشاملة، والتي تحتضن كل تنوع جزئي في انسجام، ولأنّه لا يمكن أن يكون أقل من المظهر، وبالتالي لا يمكن لأي شعور أو فكر من أي نوع أن يقع خارج حدوده”.

لكن كان هناك اختلاف حاسم بين ماك تاغارت وبرادلي وهما من كبار المثالية في زمن راسل، آمن ماك تاغارت بالخلود الشخصي وادعى أنّ الانسجام الموجود بالفعل أبديًا (إذا جاز التعبير) “يجب أن يصبح يومًا ما صريحًا” ولكن لم يفعل برادلي ذلك.

في البداية كان راسل من أتباع ماك تاغارت، وهذا أتاح له حلاً أنيقًا لمشكلة سيدجويك، يمكن تعزيز أو إعاقة اليوم السعيد الذي يصبح فيه الانسجام واضحًا من خلال العمل البشري، وإذا استفاد الفرد من نفسه على نفقته، فهو لا يفعل فقط ذلك بشكل ذاتي التي هو مرتبط بها، وفي الواقع بشكل وثيق يؤجل اليوم الذي يصبح فيه الانسجام الذي هو حقا واضحًا.

وبما أنّ هذا الانسجام سيكون ممتعًا للغاية فأنّ المرء يؤذي نفسه في الصفقة، ومن ثم تتطابق الأخلاق والمصلحة الذاتية ويتحد العقل العملي مع نفسه، ويوضح هذا النقطة التي أثارها عدد من النقاد غير اللطفاء وهي أنّ المثالية المطلقة في أواخر القرن التاسع عشر عملت كنوع من برنامج الميثادون للمفكرين الفيكتوريين رفيعي التفكير مما يزودهم بالارتقاء الأخلاقي وهم يكافحون من أجل التخلص من الأشياء الصعبة للمسيحية الرسمية.

قبل فترة طويلة انتقل راسل إلى معسكر برادلي وتوقف عن الاعتقاد بأنّ الانسجام الموجود دائمًا سيظهر في الوقت المناسب، ومع ذلك نظرًا لأنّ الإنسان بشكل كامل يشكّل جوانب المطلق ( أي النظام) كنوع من الذات الفائقة الخالدة فهناك في الأساس نفس الاعتراض على الانغماس في رغبات المرء على نفقته كما هو الحال في الانغماس في أحد المشاعر الخاصة به على حساب الآخرين غير المتسقين معها.

“أنا أؤذي إن لم يكن نفسي، على الأقل مجموعة أكبر وكلاهما جزء منها”.

ولكن لم يمض وقت طويل حتى توقف هذا الحل عن الإرضاء، وفي مقال لم ينشر حتى عام 1957 (هل تبدو سيدتي؟) جادل راسل على حد تعبيره لمور بأنّه: “لكل الأغراض التي ليست فكرية بحتة، فإنّ عالم المظهر هو العالم الحقيقي”.

على وجه الخصوص فإنّ الفرضية القائلة بوجود واقع خالدة ومتناغمة لا تقدم أي عزاء لآلام المرء الحالية لأنّها حقيقة لا يختبرها المرء أبدًا، وإذا ظل عالم الحياة اليومية غير متأثر تمامًا بالواقع وسار في طريقه كما لو لم يكن هناك عالم من الواقع على الإطلاق، وإذا كان عالم الواقع هذا هو عالم لا نفعله فقط ولكن لا يمكننا التجربة، وذلك بما أنّ التجربة مؤقتة بالضرورة، فكيف يمكن لوجودها المزعوم أن يمنحنا أي عزاء لما يبدو شرًا في عالم الظهور؟

يكون ذلك في الواقع أنّ الآلام التي ألحقها فردًا ما تؤثر على فرد آخر، أو على الأقل على شيء أكبر شبيه بالعقل نشارك فيه معًا، ولكن إذا لم يختبر الفرد هذه التأثيرات مطلقًا، فكيف يمكن أن يمنحه ذلك دافعًا لفعله أو تحمله إذا اهتماماته تتعارض مع اهتمامات فرد آخر؟

وكيف يمكن لحقيقة أنّ الفرد وفردًا آخر في الواقع واحد (أو على الأقل جزء من واحد) أن يعطي الفرد سببًا للبحث عنه، وإذا كانت هذه الوحدة أمرًا لم يجربه مطلقًا؟ وإذا كانت المثالية المطلقة لا يمكن أن تقدم أي عزاء لكوارث الحياة -وهو ما يجادله راسل صراحة- فيبدو أنّها لا تستطيع أن تزود الفرد بأي سبب لعدم زيارة تلك الكوارث عليه، وإذا كان من المحتمل أن يفيد المرء القيام بذلك.

قد يعاني الفرد بطريقة ميتافيزيقية عندما يستفيد من نفقته، ولكن إذا كانت هذه المعاناة شيئًا لم يشعر به أبدًا (بما أنّه محصور فعليًا في عالم المظهر) فلماذا يزعجه هذا؟ وهكذا فإنّ ثنائية العقل العملي تؤكد نفسها من جديد.

في بعض الأحيان ما هو صواب أخلاقيًا يتعارض مع ما هو صحيح من الناحية الاحترازية، وعندما يكون كذلك يبدو أنّه لا يوجد سبب لتفضيل أحدهما على الآخر، وليس واضحًا تمامًا ما إذا كان راسل قد أدرك ذلك، وما هو واضح أن “يبدو يا سيدتي؟ كلا إنّه كذلك) ويمثل بداية النهاية لمثالية راسل المطلقة بمجرد أن أدرك ذلك فيما يلي:

“لجميع الأغراض التي ليست فكرية بحتة، بما في ذلك ربما يكون الغرض من توفير رفع أخلاقي لعالم المظهر هو العالم الحقيقي”.

شعر راسل أنّ عالم الواقع لم يكن يستخدم لأغراض فكرية بحتة وسرعان ما قرر الاستغناء عنه، حيث كانت الحقيقة (R) الكبيرة التي لا يمكنها مواساتنا عن مشاكل الحياة ولا التوفيق بين الواجب والمصلحة، وحقيقة (R) كبيرة قد لا تكون موجودة أيضًا، وبعد فشل ميثادون المثالية المطلقة اضطر راسل إلى قبول المظاهر في ظاهرها.

ماذا عن مشكلة ثنائية العقل العملي؟

في وقت لاحق من حياته توقف راسل عن القلق بشأن مشكلة ثنائية العقل العملي، والتي شغلت كلا الفيلسوفان راسل وسيدجويك، وربما يعود ذلك لأنّه أدرك أنّها مشكلة لا يمكن حلها، فالعمل الفلسفي الكتاب الكون الواجب (The Cosmos of Duty) وهو تفسير شامل ونقدي لتحفة هنري سيدجويك الفلسفية طرق الأخلاق- هو حقًا فوضى وذلك كما قال سيدجويك بشكل نابض بالحيوية إلى حد ما.

يمكن أن يتعارض الواجب والمصلحة، ولكن عندما يحدث ذلك لا يوجد سبب حاسم لتفضيل أحدهما على الآخر، وكل ما يمكن للفرد فعله هو محاولة غرس الدوافع الأخلاقية والإيثارية وهو ما حاول راسل فعله مع أطفاله، ولكن عندما سألوا لماذا يجب أن يهتموا بالآخرين كما فعلت ابنته كيت بالتأكيد حيث كان رده ضعيفًا إلى حد ما.

كيت: “لا أريد ذلك! لماذا يجب علي أن أفعل؟”.

راسل: “لأنّ المزيد من الناس سيكونون أكثر سعادة إذا فعلت أكثر مما إذا لم تفعل”.

كيت: “وماذا في ذلك؟ أنا لا أهتم بالآخرين”.

راسل: “يجب”.

كيت: “لكن لماذا؟”.

راسل: “لأنّ المزيد من الناس سيكونون أكثر سعادة إذا فعلت أكثر مما إذا لم تفعل”.

هذه ليست إجابة كبيرة ولكن نظرًا لأن الكون الواجب هو حقًا فوضى، فربما كان أفضل ما يمكن أن يفعله راسل.


شارك المقالة: