اقرأ في هذا المقال
عاش البحتري ثمانين سنة وقد أمضاها متنقلاً مرتحلاً بين البلدان قاصداً رضا ولاة الأمر وكسب الأموال، وكان في بعض الليالي يقضي ليلته يهذب قصيدته المدحية من أجل كسب رضا الممدوح وبكسب عطاياهم، كان مُقل بالحكم في أبياته لكنه قد أورد القليل منها ومن هنا سنتناول الأبيات المتضمنة للحكمة.
حياة البحتري الشعرية
للبُحتري منزلة مرموقة في عصره مجيد الكلام المنظوم مكثراً في نظمه حتى أنه تغلب على أبو تمام وفي بعض الأحيان قيل إنه أشعر منه، كان البحتري كثير الترحال بين الشام وبغداد يمدح ولاة الأمر ويطلب رضاهم وينال عطاياهم.
عرف عنه فصاحة لسانه ووضوح معانيه ومفرداته ويعمد إلى توظيف كل ما يراه ويستهويه في أبياته، واهتم به أبو تمام كثيراً وغرضه من ذلك توريثه لأن يكون أمير الشعراء من بعده، تميز البحتري بسمات جعلته متفرداً في عصره له مكانة مرقومة ومكنته من التغلب على أبرز شعراء عصره مثل دعبل الخزاعي وغيره.
وكان له مكانة رفيعة عند المتوكل حيث قربه منه واهتم بأبياته وحثَّه على نظم المزيد وأجزل له العطايا وكان متميزاً في كل الأغراض وخصوصاً الوصف.
خصائص شعر البحتري
1- إتقان الوصف: تفرد البحتري في ذلك وكان يتميز بالدقة والبعد عن الغموض وكان يصف كل ما يراه من مشاهد خلال ترحاله وتنقله بين البلدان ويترجمه للمُتلقي بأجمل الأشعار.
2- قوة الإحساس المرهف: تميز في أبياته بعواطفه القوية وكانت هي الدافع له والتي تمكنه من التعبير عما يدور في ذاته بسهولة وتمكنه من مدح ولاة الأمر بطريقة متقنة يكسب بها رضاهم.
3- مرونة المفردات: مقطوعات البحتري مُحببة ومطلوبة في جميع المناسبات وفي كل المجالس وكذلك بسبب يسر ألفاظه ومرونتها فجعل لها أثر في نفس المتلقي، وكان حكام بني العباس يميلون إلى هذا النوع من الألفاظ ولهذا كانوا مولعين ومهتمين بسماع أبيات البحتري.
4- جمال الإيقاع الموسيقي: اهتم البحتري بالإيقاع الموسيقي حيث يكثر من المحسنات والصور والتشبيهات التي تسحر القلوب وتسلب الألباب.
الأغراض الشعرية في شعر البحتري
1- المدح: تميز بهذا الموضوع وكان مكثراً فيه وينَمق أبيات المدح ويسهر الليالي في ذلك ليكسب رضا الحكام ونيل عطاياهم، حيث كان هدف البحتري من المدح هو كسب المال ونيل العطايا وكان ولاة الأمر مولعين بسماع مدحه لما فيه من مرونة الألفاظ ووضوح، ومن أشعاره عن المدح:
أكْرَمُ النّاسِ شِيمَةً، وأتَمُّ النّا
سِ خَلْقاً، وأكثرُ النّاسِ رِفْدا
مَلِكٌ حَصّنَتْ عَزِيمَتُهُ المِلْـ
ـكَ، فأضْحَتْ لَهُ مَعَاناً، وَرَدّا
أظْهَرَ العَدْلَ، فاستَنَارَتْ بهِ الأرْ
ضُ، وعَمَّ البِلاَدَ غَوْراً وَنَجْدَا
وَحَكَى القَطْرَ، بَلْ أبَرَّ عَلَى القَطْـ
ـرِ، بكَفٍّ على البرِيّةِ تَنْدَى
هُوَ بَحْرُ السّماحِ، والجُودِ،
فازْدَدْ مِنْهُ قُرْباً، تَزْدَدْ من الفَقْرِ بُعْدا
2- الرثاء: عرف عن البحتري أنه قام برثاء من مدحهم في أبياته وكذلك قام بنظم أبيات في رثاء ولده، ومن أشعار البحتري في الرثاء:
تَغَيَّرَ حسنُ الجْعَفَرِيِّ وأُنْسه
وقُوِّض بادي الجعفريِّ وحاضرهْ
تحَمَلَ عنه ساكنوهُ فُجَاءةً
فآضت سواءً دُورُه ومقابرُه
ولم أرَ مثل القَصرِ إذ رِيعَ سِرْبُهُ
وإذ ذُعِرَتْ أطلاؤها وجآذِرْه
وإذْ صِيحَ فيه بالرّحيل فَهُتِّكَتْ
على عجَل أَسْتَارُهُ وستائرُهْ
3– الهجاء: نظم البحتري الكثير من قصائد الهجاء ولكنه كما قيل أنه طلب من ابنه وهو يحتضر أن يقوم بإتلاف جميع هذه القصائد وحرقها، ومن أشعاره في الهجاء:
أعجب لظلم زماننا المتواتر
ولأول مما يريك وآخر
تالله أخذ بالخراج وضيعتي
لحم يطرح في مخالب طائر
ويغليها قوم وأعطي خرجها
حكم لعمرك غير عادل ظاهر
صلى الإله على سدوم فلم يكن
في جانب قصتنا سدوم بجائر
أبلغ أبا العباس حيث أحل من
حلب مكان الغيث فينا الماطر
4- الغزل: عرف عنه أنه يبدأ قصائده المدحية بالغزل وتغزله بابنه وكانت تتميز أبياته بالرقة وأنها ضرب من الخيال الذي تعلق به البحتري كثيراً ومن أشعاره:
طَيفُ الحَبيبِ أَلَمَّ مِن عُدَوائِه
وَبَعيدِ مَوقِعِ أَرضِهِ وَسَمائِهِ
جَزَعَ اللِوى عَجِلاً وَوَجَّهَ مُسرِعاً
مِن حَزنِ أَبرَقِهِ إِلى جَرعائِهِ
يُهدي السَلامَ وَفي اِهتِداءِ خَيالِهِ
مِن بُعدِهِ عَجَبٌ وَفي إِهدائِهِ
5- الوصف: من المواضيع التي أجاد فيها كثيراً حيث يصف كل ما يراه و يستهويه دون تكلف أو أي تصنع وكان بارعاً في وصف الطبيعة التي يعيش فيها ومن أشعاره:
ألَستَ تَرَى مَدّ الفُراتِ كأنّهُ
جبالُ شَرَوْرَى جِئْنَ في البَحرِعُوَّمَا
وَلَمْ يَكُ مِنْ عاداتِهِ غَيرَ أنّهُ
رَأى شِيمَةً مِنْ جَارِهِ، فَتَعَلَّما
أتَاكَ الرّبيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكًا
منَ الحُسنِ حتّى كادَ أنْ يَتَكَلّمَا
وَقَد نَبّهَ النّوْرُوزُ في غَلَسِ الدّجَى
أوائِلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمْسِ نُوَّمَا
الحكمة في شعر البحتري
رغم أن البحتري مُقل في هذا إلا أنه ورد عنه أبيات تتضمن الحكمة التي استخلصها من الأحداث التي عاشها وكانت أبياته المتضمنة للحكمة ذات لغة سهلة واضحة لها وقع وأثر في الأذهان، وكان يستنبط الحكمة من سيرة ولاة الأمر الذين مدحهم ومنهم المهتدي بالله الذي تحدث في أبياته عن ورعه وزهده ومكثر لقراءة القرآن الكريم ومن هذه الحياة المُترفعة الزاهدة دفعت البحتري لنُظم هذا البيت:
وما تحسن الدنيا إذا هي لم تُمَنْ
بآخرة حسناء يبقى نعيمها
كانت الحكمة في أبياته تعبر عن حقيقة حياته لهذا نرى مقطوعاته مليئة بالحيوية والتفاؤل وعشقه للحياة، وأبياته تنفي ما قد تداول عنه بأنه وسخ الثياب قبيح الهيئة، وكيف يمكن أن يكون ذلك وهو ملازماً للمتوكل مجالساً له ومن أبياته التي دلت على عكس ما نقل عنه:
شعرات أقصهُن ويرجعن
رجوع السهام في الأغراض
ومن الأدلة على حبه وتَعلقه بالحياة قوله:
خُلق العيش في المشيب ولو كا
ن نضيراً وفي الشباب جديدُه
من الحكم التي وردت في أبيات البحتري حديثه عن الزمن والعصور التي لا يمكن لأحداث أن يرضى عنها فهي متشابه لا تختلف في أطوارها، وأن البشر متشابهين في كل الأزمان ومن ذلك قوله:
والبواقي من الليالي وإن خالفن
شيئاً فهن مثل المواضي
كما كان البحتري يذكر في أبياته أقوال معروفة ومتداولة مستنبطة من أحداث الدهر ومن ذلك قوله:
ألم تر للنوائب كيف تسمو
إلى أهل النوافل والفضول
وكيف تروم ذا الشرف المعلى
وتخطو صاحب القدر الضئيل
وما تنفك أحداث الليالي
تميل على النباهة للخمول
ومن الحكمة التي وردت في مقطوعات البحتري نظمه في مدح يوسف بن محمد:
أشكر أيامي لديك وحسنها
وآخر ما يبقى من الذاهب الذكر
كذلك تحدث عن وحدة الناس قائلاً:
إذا تشَاكلت الأخلاق واقتربت
دنت مسافة بين العجم والعرب
وفي النهاية نستنتج إن البحتري من أبرز أهل الأدب في عصر تميز بالعديد من أنواع الكلام المنظوم وخصوصاً المدح الذي كان الغرض منه التكسب المادي، كما أجاد في الوصف وكان وصفه مستنبط من الطبيعة التي حوله وعرف عنه استعمال المفردات السهلة الواضحة.