على شعث أي الرجال المهذب

اقرأ في هذا المقال


لقد أبدع أغلب العرب في ضرب الأمثال وإنشائها في مختلف الوقائع والمواقف، فما نتعرض لموقف في الحياة إلا ونجد مثلًا قد ضُرب عليه، وغالبًا لا تخلو الخطب المشهورة ولا قصيدة سائرة من مثل رائع مؤثر في حياتنا، فالأمثال أصدق شيء يتحدث عن أخلاق الأمة وتفكيرها وعقليتها، و تقالىدها وعاداتها، ويصور المجتمع وحياته وشعوره أتم تصوير، فهي مرآة للحياة الاجتماعية والعقلية والسياسية والدينية واللغوية، وهي أقوي دلالة من الشعر في ذلك؛ لأنه لغة طائفة ممتازة، أما الأمثال فكانت لغة جميع الطبقات، ولقيت هذه الأمثال شيوعا لخفتها وعمق ما فيها من حكمة وإصابتها للأغراض المنشودة منها، وصدق تمثيلها للحياة العامة ولأخلاق الشعوب.

أصل مثل “أي الرجال المهذب”:

بعض أمثال العرب الغالب عليها الغموض، وتركيبتها تدلّ على معنى محدد لا تؤدي إليه الكلمات المفردة، ومن ذلك قول العرب “بعين ما أرينك” أي أسرع، ولم يكن هذا النوع من الأمثال هو الوحيد، بل هناك أمثال صدرت عن شعراء مبدعين وخطباء مرموقين، فجاءت راغبة الأسلوب متألقة بما فيها من جمإليات الفن والتصوير، مثل: أي الرجال المهذب، فهذا المثل جزء من بيت للنابغة الذبيانيّ، يُضرب مثلا لاستحالة الكمال البشري، والبيت هو:

“ولست بمستبقٍ أخًا لا تلمه    على شعثٍ أيُّ الرجال المهذب؟”، وشرح البيت يقول: ما من أحد مِن الناس إلا وقد اتّخذ له صديقًا، وصاحب رفيقًا، وبمضيّ الزمن ومرور الأعوام يكثر الصّحاب، ويتبدّل الأصدقاء، ويعتري هذه الصّحبة ما يعتري غيرها من أمور الدنيا، فقد تقوى حينًا وتفتر حينًا آخر، وما إن تتوثّق يومًا حتى تضعف في آخر؛ وما ذاك إلا لما يقع بين الإخوان والأصحاب من قرب وبعد، ومودة وجفاء، وما يكون بينهم مِن هفوات وزلات، فتفتر الصّحبة، أو يسوء الظن، والعاقل من حافظ على صديقه بإقالة العثرة والعفو عن الزلّة وقلة المعاتبة.

قصة مثل “أيّ الرجال المهذب”:

لقد سعى الوشاة والحسّاد بين النابغة الذبياني والنعمان بن المنذر حاكم الحيرة في وقت من الأوقات، فما كان من النعمان إلا أن غضب، وهدد النابغة وأهدر دمه، ووضع الجوائز لمن يأتي برأسه، فقدم النابغة حروف الاعتذار للمنذر، غير أن النابغة الذبياني لم يقنع بما قدّمه من حروف اعتذارية للنعمان بن المنذر في المشهد الأول، ولم تنفد ألوان ريشته في رسم لوحته التي تشي بكل أنواع الأسف والبيان ودفع التهمة والكشف عن تفاصيل القضية؛ لأنه يعرف عظم الجرم المتهم فيه، كما أنه يعي مكانة المعتذر منه المجني عليه، يقول في المشهد الثاني:

“فلا تترُكَنِّي بالوعيد كأنني    إلى الناس مَطليٌّ به القار ُأجربُ

ألم ترَ أن الله أعطاكَ سورةً          ترى كُلَّ مَلْكٍ دونها يتذبذبُ

فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ      إذا طلعت لم يبدُ منهنَّ كَوكَبُ

ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تَلُمُّهُ      على شَعَثٍ، أي الرجالِ المهَذَّبُ”.

فإن أكُ مظلوماً فعبدٌ ظلمتَهُ         وإن أكُ ذَا عُتبى فمِثلُكَ يُعتِبُ”.

وقد نظم الشاعرنا العربي المتميز النابغة الذبياني، هذه الأحرف بقلب مليء بالحبّ والخوف من تلك الأنباء، والتي وصلته زاعمة أنه قد هجا ملك المناذرة: “النعمان بن المنذر”، وهو هنا ليفنّد تلك الأكاذيب ويكشف الحقيقة ويضع الأمور في نصابها، فكانت حروفه مليئة بالحكمة، حتى أنها في بعضها راحت أمثالًا تتداولها الألسن، على مر العصور، ومقولة “أيّ الرجال المهذب” من هذا المشهد الاعتذاريّ الذي يحمل معه حكمة رائعة، تنمّ عن صدق الخبرة وعمق التجربة، حتى عُدّ هذا البيت من شوارد الشعر.

العبرة من مثل “أيّ الرجال المهذب”:

إنّ الإنسان الذي يعيش في هذه الدنيا الفانية الزائلة، لن يتمكن من الحفاظ على أصحابه كلهم، ولن يكون باستطاعته أن يستبقيهم جميعًا، إلا في حالة واحدة، وبالطبع هي أن يكون صدره واسعًا متحمّلًا لأخطائهم، غافرًا لزلاتهم، متغاضيًا عن ذنوبهم، فليس هناك على وجه الأرض إنسان كامل لا يخطئ، ولا يوجد أي امرئ يرضى الإنسان سجاياه كلها ويقبل صفاته جميعها، بالطبع إنّ هذا أمر مستحيل، لهذا فحتى لو كان الشخص مخطئًا، وحتى لو افترضنا أنه أذنب في حقّ الآخرين، فكذلك الطرف المقابل من البشر، وليسوا من الملائكة، والبشر يصيبون ويخطئون، وإنما العفو والصفح عند الأخطاء مرجوّ بين الأصدقاء والأصحاب.

ما مِن أحدٍ مِن الناس إلاَّ وقد اتّخذ له صديقًا وصاحَب رفيقًا، وبمضيِّ الزمن ومرور الأعوام يكثُر الصِّحاب، ويتبدّل الأصدقاء، ويعتري هذه الصُّحْبة ما يعتري غيرها من أمور الدنيا، فبينما تقوى حينًا تفترُ حينًا آخَر، وما أنْ تتوثَّق يومًا حتى تضعُف في آخر؛ وما ذاك إلا لما يقع بين الإخوان والأصحاب مِن قُربٍ وبُعد ومودةٍ وجفاء، وما يكون بينهم مِن هفوات وزلاَّت، فتفتر الصُّحْبة، أو يسوء الظن، والعاقل من حافظ على صديقِه بإقالةِ العثرة والعفو عن الزلّة وقلة المعاتبة، وقد صدق النقاد حين قالوا: النابغة أشعر الشعراء إذا رهب، ونصه المتميز هذا دليل على صدق هذه العبارة، وصحة ذلك الحكم، وما رضي الشعراء عنه حين جعلوه حكمًا بينهم في سوق عكاظ وقاضيًا لهم إلا دليلًا على أنّ هذا الشاعر العظيم قد بلغ أعلى مراتب الشاعرية، وأرفع درجات الإبداع.


شارك المقالة: