وللأماني لما تتحقق أمثالها - عند الصباح يحمد القوم السرى

اقرأ في هذا المقال


عند الشدائد، يستند المرء  إلى الحكم التي خلّفها الآباء والأجداد، وما أنتجته تجاربهم، والتي يعجّ بها تراثهم العظيم من الحكم والأمثال والأقوال والأشعار، نحاول أن نتصبر بها، وأن نستلهم منها الوعي والقوة والعمل، وليس هناك أدنى شك أنّ للأمثال دورها الكبير في إظهار درجة فصاحة الشخص المتكلم أوالكاتب، وفي تمكينهما من أن يعبّرا بعبارة موجزة عن الكثير من الأفكار، فما يكاد يسمع أهل اللغة مثلًا أو يقرؤونه، حتى تتداعى المعاني في أذهانهم فتغني المتحدث والكاتب عن كثير من الكلمات والألفاظ.

فيم يضرب مثل “عند الصباح يحمد القوم السرى”؟

اعتادت العرب أن تضرب مثل “عند الصباح يحمد القوم السرى”، فيمن يحتمل المشقة والصعاب رجاء الفوز ونيل الأماني.

حكاية مثل “عند الصباح يحمد القوم السرى”:

لمثل “عند الصباح يحمد القوم السرى” حكاية، فقد ذكر المفضل أن الخليفة أبا بكر الصديق كتب إلى الصحابي الجليل القائد خالد بن الوليد، وهو باليمامة أن امضِ الى العراق، فأراد أن يسلك المفازة، فقال له رافع الطائي: لا أظننك تقدر عليها إلا أن تحمل معك الماء، فاشترى خالد بن الوليد مائة من الإبل فعطشها ثم سقاها الماء حتى رويت، ثم كمم أفواهها، وسلك المفازة، فلما مضى يومان وخاف العطش على الناس والخيل، وخشي أن يذهب ما في بطون الإبل، نحر الإبل واستخرج ما في بطونها، فسقى الناس ومضى، وحين كان في الليلة الرابعة، قال رافع: انظروا هل ترون سدرًا عظامًا، فإن رأيتموها وإلا فهو الهلاك، فنظر الناس فرأوا السدر فأخبروه، فكبر وكبر الناس، ثم هجموا على الماء، فقال خالد بن الوليد- رضي الله عنه- :

“لله در رافع أنى اهتدى                  فوز من قراقر أنى سرى
خمسا إذا سار به الخيس بكى    ما ساورها من قله إنس يرى
“عند الصباح يحمد القوم السرى”    وتنجلي عنهم غيابات الكرى”.

أما بداية حكاية المثل فقد كانت في عهد أبي بكر الصديق- رضي الله عنه-، إذ كان المسلمون والروم وقتها يتجهزون للقتال، وقد أمر هيرقل الجيوش الرومية أن تخرج للقتال، وخرجت كل فرقة وراء الأخرى بأعداد كثيفة، وأرسل إلى عمرو بن العاص تسعين ألفًا من المقاتلين بقيادة تذارق، وأرسل جرجة بن بوذيها ومعه من خمسين إلى ستين ألف مقاتل إلى يزيد بن أبي سفيان وعسكروا هناك، وأرسل الدارقص إلى شرحبيل بن حسنة، وأرسل اللقيقار ومعه ستين ألف مقاتل إلى عبيدة بن الجراح، وكانت كل هذه الجيوش بأعداد الكبيرة في مواجهه جيوش الإسلام، وكانوا حوالي إحدى وعشرين ألفًا.

وقتئذٍ كتب الأمراء المسلمين إلى أمير المؤمنين أبي بكر وعمر بن الخطاب، يخبرونهم ما حدث، وكان الردّ عليهم أن يجتمعوا ويكونوا جندًا واحدًا، فالنصر معهم، والله ينصر من ينصره ويخذل من كفر به، ولن يؤتى مثلكم من قلة، ولكن من تلقاء الذنوب فاحترسوا منها، وليصلِّ كل رجل منكم بأصحابه، وقام أبو بكر الصديق بمراسلة خالد بن الوليد في العراق؛ ليذهب إلى بلاد الشام حتى يفرغ ويرجع بعد ذلك، ولما علم هرقل بما قام به أبو بكر الصديق من أمره أمراءه بالاجتماع ويكونوا جندًا واحدًا، أمر هو الآخر قد طلب منه بأن يجتمعوا، وأن ينزلوا بالجيش منزلًا واسعًا، وجعل على الجند أخوه بندارق وفي المقدمة جرجة وعلى الجانبين ماهان والدارقص وعلى البحر القيقلان، وعندما وصل مرسال أبي بكر إلى خالد بن الوليد، قام بندب المثنى بن حارثة في العراق وذهب خالد بن الوليد مسرعًا ومعه 9500 مقاتل، وسلك أراضي لم يسلكها أحد من قبله، فسار في وسط البراري والقفار، وكان يصل الليل بالنهار ويقطع الأودية، ويصعد الجبال وكان معه رافع بن عميرة الطائي يدلهم في مسيرهم على الطريق، وكانت النوق متعطشة فسقاهم، ولما فقدوا الماء نحروها وشربوا ما في جوفها من ماء.

وصل القائد خالد بن الوليد بعد مضيّ خمسة أيام، وقام بالخروج على الروم من ناحية تدمر، وقد قال له العرب: إنه لابد أن يبلغ الشجرة الفلانية في مسيره، فإن وصل إليها نجا هو ومن معه، وإن لم يصل هلك هو ومن معه، وساروا بالفعل ليلًا طويلًا ووصلوا إلى هذه الشجرة، فقال خالد بن الوليد وقتها: عند الصباح يحمد القوم السرى، وصارت مثًلا لمن يصل إلى مراده بعد صبر ومعاناة وسهر الليل الطويل.


شارك المقالة: