يتساءل الكثير من الناس عن الأصول التي جاءت منها أشهر الأمثال العربية، فالمثل ما هو إلا حكاية شعرية أو نثرية توضح البعض من المبادئ الثقافية، كما أن الأمثال تقدم لنا بعضًا من الدروس والعبر، والأمثال الشعبية تجعل الكلام يكسب السحر والجمال وسطوعًا والروعة والبيان، والأمثال تقوم باستثارة النفـوس والعـواطف، وكما أنها تملك القلوب والمشاعـر، وتقـوم الأمثال مقـام الحجـج والبراهـين؛ وذلك لصحـة أحكامهـا وصـدق مدلولاتها.
الأمثال تسيـر سيـرورة الشعـر وتعمل عمله وتذيع ذيوعه، بل إن المثل يعدّ هو الأقوى دلالة من الشعر في تصوير أخلاق الأمم وتفكيرها وعقليتها وتقاليدها وعاداتها وتصوير المجتمع وحياته وشعوره، أتم تصوير في مرآة الحياة الاجتماعية والعقلية والسياسية والدينية واللغوية؛ لأن الشعر لغة طائفة ممتازة، أما المثل فلغة جميع الطبقات.
لمَ يُضرب مثل “غراب البين”؟
يضرب مثـل “غراب البين” للإنسان الذي يدع الأمر الذي يجيده رغبة بأن يتعلّم ما لا يجيده، فلا يتمكن من أن يحسن ذلك، ولا يستطيع الرجوع إلى الذي كان عليه، فلا يفلح في كلتا الحالتين.
أصل مثل “غراب البين”:
إن العرب يربطون بشكل دائم بين مشاهدة الغراب والتشاؤم، ونمتلك مع الغراب ذكريات بغاية السوء، ابتداءً من قصة قابيل وهابيل، وصراع الغرابين أمام قابيل، وقيام أحدهما بدفن أخيه، ومرورًا بالغراب الذي أرسله سيدنا نوح عليه السلام؛ ليستكشف قرب اليابسة حتى ينزل وجماعته من على السفينة التي أبحر بها طويلًا، إلا أن الغراب ذهب ولم يعد، فبان عن أمر سيدنا نوح عليه السلام ؛ أي ابتعد ومن هنا ارتبط اسم البين بالغراب، وقد دعا عليه سيدنا نوح عليه السلام بالخوف؛ لذا الغراب لا يألف البيوت، وهناك مثل عربي شهير يقول: غراب البين ضيع المشيتين.
كما أسلفت أعلاه أن المثل هذا يُضرب على الشخص الذي يترك فعل ما يجيده من أجل فعل شيء آخر لا يجيده، فلا يستطيع الرجوع لما كان عليه، ولا المضي قدمًا فيما صار فيه؛ فلا يفلح في كلتا الحالتين، ويظل هكذا عالقًا في المنتصف، ويُحكى أن أصل القصة أنه كان هناك غراب أسود في غابر الأزمان يسير كما تسير بقية الحيوانات.
ظل الغراب يمشي تلك المشية المضحكة، والتي لا تشبه مشية الغراب، وليست هي بمشية العصفور، وإنما كانت عبارة عن قفزات قبيحة مضحكة، ولما شاهدته الحيوانات والطيور، وعلموا بذلك راحوا يستهزئون منه، ويسخرون من فعلته، وقلة عقلة، وقالوا فيه: “غراب البين ضيع المشيتين”؛ أي أنه نسي مشيته ومشية العصفور، ومن يومها صارت هذه المقولة مثلًا في التردد، وتقليد الآخرين تقليدًا أعمى دون أي تفكير أو تدبر.